الذي يترجح من كلام جماهير أهل العلم أن يوم عرفة علم على الزمان لا المكان فهو يطلق على اليوم التاسع من ذي الحجة سواء وافق هذا اليوم وقفة الحجيج بعرفة أم لم يوافق ،وإنما سمي بهذا الاسم نسبة للوقوف بعرفة ذلك اليوم ،إذ هو اعظم الأعمال التي تعمل فيه ،مثله مثل يوم عاشوراء الذي هو اليوم العاشر من محرم ، قال الخرشي في شرحه للمختصر عند قول خليل رحمهما الله تعالى في باب الصوم (..وعرفة وعاشوراء ) بعد كلام : ولم يرد بعرفة موضع الوقوف بل أراد به زمنه وهو اليوم التاسع من ذي الحجة ، وأراد بعاشوراء اليوم العاشر من المحرم .
وقال ابن قدامة في المغني ( 4 / 442 ) : فأما يوم عرفة فهو اليوم التاسع من ذي الحجة ، سمي بذلك لأن الوقوف بعرفة فيه ، وقيل : سمي يوم عرفة لأن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه ، فأصبح يومه يتروى ، هل هذا من الله أو حلم ؟ فسمي يوم التروية ، فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضا فأصبح يوم عرفة ، فعرف أنه من الله ، فسمي يوم عرفة ، وهو يوم شريف عظيم ، وعيد كريم ، وفضله كبير اهـ .
وقد يقع الإشكال على البعض بسبب اتحاد جميع المسلمين يوم عرفة في الحج في الوقوف بعرفة وهذا لا إشكال فيه؛ لأن المكان واحد والعبرة فيه برؤية المسلمين للهلال في بلاد الحرمين ،أما ما يتعلق بالعبادات التي يفعلها المسلمون في بلادهم فهي مرتبطة برؤيتهم للهلال لا برؤية بلاد الحرمين إن اختلفت الرؤية ،وهذا كالصوم في رمضان لكن لما كان الصوم لا يلزم فيه اتحاد المكان كالحج لم يحصل هذا الإشكال فيه .
وهذه المسألة فرع عن أصل الخلاف المشهور في مسألة اختلاف المطالع بين قطر وآخر في شهر رمضان وشوال ، ويمكن أن يستدل لها بنفس أدلة تلك ،فليرجع إليها في مظانها .فلا فرق في اختلاف المطالع في جميع الشهور ،إذ انه إذا جاز الاختلاف في الصوم والإفطار، فلم لا يجوز في ذي الحجة مثل غيره من الشهور؟ .
ومن أدلة هذه المسألة ظاهر قول عائشة رضي الله تعالى عنها فيما رواه عبد الرزاق في مصنفه ( 4 / 157 ) عن مسروق : أنه دخل هو ورجل معه على عائشة يوم عرفة ، فقالت عائشة : يا جارية ! خوضي لهما سويقاً وحليةً فلولا أني صائمة لذقته ، قالا : أتصومين يا أم المؤمنين ! ولا تدرين لعله يوم يوم النحر ، فقالت : إنما النحر إذا نحر الإمام ، وعظم الناس ، والفطر إذا أفطر الإمام وعظم الناس ، وفي رواية البيهقي في السنن الكبرى ( 4 / 252 ) وجود الشيخ الألباني إسناده في السلسة الصحيحة ( 1 / 389 ): ( النحر يوم ينحر الناس ، و الفطر يوم يفطر الناس )
وفي رواية عنها عند البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الاوسط قالت : إنما عرفة يوم يعرف الإمام ، ويوم النحر يوم ينحر الإمام .
وظاهر كلامها رضي الله تعالى عنها أنه لا يلتفت إلى الشك في يوم عرفة ، ولا عبرة في التخوف من أن يكون هو يوم النحر ، لأن العبرة فيما عليه الإمام وأهل البلد ،فيوم النحر يوم ينحر الإمام وأهل البلد ، والفطر يوم يفطر الإمام وأهل البلد .
ومادام أن هذه المسألة خلافية فحكم الحاكم فيها يرفع الخلاف ، فلو حكم الحاكم أو من ينوب عنه – كلجنة مراقبة الأهلة عندنا - فإنه يلزم أهل البلد الذي تحت حكمه وسلطانه طاعته ، ولا فرق بينها وبين مسألة الصوم والفطر بحكم الحاكم ، وعلى هذا تتفق الكلمة ولا تتشتت ، ويجتمع الناس في البلد الواحد على صيام واحد ، وعيد واحد ولا يتفرقوا .
قال ابن عثيمين رحمه الله في فتاويه في إجابة له حول هذه المسألة :... إذا كان البلدان تحت حكم واحد وأَمَرَ حاكمُ البلاد بالصوم ، أو الفطر وجب امتثال أمره ؛ لأن المسألة خلافية ، وحكم الحاكم يرفع الخلاف ، وبناء على هذا صوموا وأفطروا كما يصوم ويفطر أهل البلد الذي أنتم فيه سواء وافق بلدكم الأصلي أو خالفه ، وكذلك يوم عرفة اتبعوا البلد الذي أنتم فيه اهـ .
و قد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه " إنباء الغمر بأبناء العمر " كلاما ظاهره أن هذه المسألة كانت مشتهرة عند الناس أنها راجعة إلى اختلاف المطالع ، فقد قال في أحداث عام ثمان وعشرين وثمانمائة : .. وفي الثالث والعشرين من ذي الحجة وصل بالمبشر من الحاج وأخبروا بالرخاء الكثير في الحجاز، وأنه نودي بمكة أن لا تباع البهار إلا على تجار مصر، وأن لا يكون البهار إلا بهار واحد ، وأخبر بأن الوقفة كانت يوم الاثنين وكانت بالقاهرة يوم الأحد، فتغيظ السلطان ظناً منه أن ذلك من تقصير في ترائي الهلال ، فعرفه بعض الناس أن ذلك يقع كثيراً بسبب اختلاف المطالع ؛ وبلغني أن العيني شنع على القضاة بذلك السبب . فلما اجتمعنا عرفت السلطان أن الذي وقع يقدح في عمل المكيين عند من لا يرى باختلاف المطالع، حتى لو كان ذلك في رمضان للزم المكيين قضاء يوم، فلما لم يفهم المراد سكن جأشه اهـ .
وقد ذكر ابن تيمية في فتاويه في جواب سؤال في نفس المضمار أن على الناس أن يصوموا التاسع في الظاهر المعروف عند الجماعة، وان كان في نفس الأمر قد يكون عاشراً، ولو قدر ثبوت تلك الرؤية. قال : فإن في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون" [أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه] وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله: "الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضح الناس" [ رواه الترمذي] وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم. فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم. ولو وقفوا الثامن خطأ ففي الأجزاء نزاع. والأظهر صحة الوقوف أيضاً، وهو أحد القولين في مذهب مالك، ومذهب أحمد وغيره. قالت عائشة رضي الله عنها: "إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس" وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .
إذا تقرر هذا فلا لوم على المسلمين في أن يختلفوا في بداية الصوم ونهايته، وفي تحديد يوم عرفة ويوم العيد ما دامت مطالعهم مختلفة، لأن العبرة في دخول الشهر بالرؤية أو بإتمام الشهر ثلاثين يوماً، ويكون يوم عرفة ويوم العيد بالنسبة لمن بمكة غير يوم عرفة ويوم العيد بالنسبة لغيرهم ممن يختلف مطلعهم عنهم كإفريقيا مثلا، وإذا تأخرت رؤيتهم للهلال عن رؤية أهل مكة ،فلا يقال إنهم صاموا يوم عرفة في يوم العيد وصومه ممنوع، لأنه لم يكن قد دخل يوم العيد عندهم حتى يقال عنهم إنهم صاموا يوم العيد، وأما أهل البلد الواحد المتحد المطلع فيلزمهم أن يتحدوا في الصوم والعيد إذا رأوا الهلال أو أتموا الشهر فيصوموا أو يضحوا في يوم واحد باعتبار ثبوت الهلال لديهم، أو إكمال عدة الشهر، ولا يصح أن يوافقوا أهل البلد الآخر، ولا يصح أن يختلفوا ويتفرقوا في هذه الحالة، للحديث الذي ذكرنا آنفا : الصوم يوم تصومون، والإفطار يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون .
د/ سيدي يحيى ولد عبد الوهاب [email protected]