د دداه محمد الأمين الهادي يطل بعد حين الثامن والعشرون من نوفمبر للمرة الثالثة بعد الخمسين، وهي فرصة ليتذكر الموريتانيون نير الظلم ومرارة الاستعمار بشيء من الأسى العميق، كما تهتز الجوانح أيضا زهوا بالحرية والاستقلال، واعتزازا وفخرا بنهاية الإمبريالية السادية. لقد كان الاستقلال بسواعد الأبناء المقاومين-بحسب البعض-، وبحسب آخرين كان الاستقلال هدية فرنسية بسبب خرف فرنسا، وهزائمها المتتالية في الحرب العالمية الثانية، التي جعلتها غير قادرة على البقاء في مستعمراتها، وآخرون يرون في الاثنين معا –المقاومة والحرب العالمية الثانية- سببا للاستقلال، والمؤكد هو أن موريتانيا استقلت، وأن كثيرا ممن حاربوا المستعمر ثقافيا وعسكريا ماتوا وهم يجهلون أن الإقليم سيتسمى موريتانيا لاحقا، ولم يعرفوا حدود الوطن بشكلها الراهن، ولا مكوناته الأثنولوجية، ومهما يكن وبرغم الحساسيات حول الموضوع فمن المؤكد أن كثيرين لم يحاربوا عن موريتانيا كما تصورتها فرنسا، وكما نعرفها اليوم. وعود على بدء، لنرجع للأساس في هذا المقال، ونلاحظ أن الاستقلال لم يكن إلا خارجيا صرفا، فالاستعباد والاسترقاق والطبقية أشياء ظلت سائدة داخل الداخل، الذي هو الوطن موريتانيا، وعند نشأة موريتانيا المستقلة كانت الدولة تضاف كعامل في لبنات الاستغلال، وذئبية الإنسان اتجاه أخيه الإنسان، التي تناولها الفيلسوف الألماني "هوبز" بشيء من التحليل، فلقد تجلت حالة الطبقية المقيتة في استغلال الموظف البسيط من قبل الموظف الكبير، الذي صار هو المستعمر الجديد للمواطن البسيط، والموظف البسيط، الذين لا يحصلان على حقوقهما إلا بالأمراض الاجتماعية الفتاكة المنتشرة وطنيا، ألا وهي المحسوبية والرشوة والوساطة والزبونية والهرمية والجهوية والقبلية والمعرفة الشخصية، لقد كان الواقع الموريتاني ناضجا كفاية لاستعمار الأبناء للأبناء بالرتبة والوجاهة، وكان الاستعمار الداخلي هذا وباء حقيقيا على طموحات الناس، ومستقبل البلد. ومن أبسط تجليات هذه الظاهرة أن القوانين الوطنية خلت تماما من الطابع الحقوقي آنذاك، فكانت الأجور والعلاوات تتضاعف في اتجاه أمراء المشهد من معينين لم تنقصهم الامتيازات يوما، وكان الآخرون من أبناء الوطن الموظفين يتقاضون رواتب لا تشتري سلة بيض، وزيادة على ذلك يعيدون شيئا من الاستعباد المقنع، فالموظفون الصغار منحة سماوية لبيوت نبلاء المشهد، يعدون الشاي في البيوت، ويحملون الكل لربات الحجال "صيدات الزعماء"، ويتسولون هبات الكبار في مشهد الاستعباد المتطور باسم الدولة والعرف وقانون اللاقانون. واليوم سيحل عيد الاستقلال القادم بعد ما يربو على شهر، ليذكرنا جميعا بمأساة أجيالنا المجهضة عبر تاريخنا الحديث، تلك الأجيال التي تلاشى معظمها في عالم الضياع، وهو لم ير مشروع الدولة الوطنية يتسع لجميع أبنائه بلا ميز لأي سبب كان. ومع بزوغ نجم الرئيس السابق أعل/محمد فال تفاجأ الرأي العام بأكبر زيادة أجور منذ الاستقلال وصلت 50%، ولا يهمنا ما أراده سياسيا، ولكنه من الناحية الاجتماعية –وهو مدير أمننا السابق- كان لا شك لديه وعي بهزالة أجر الموظف، والقلاقل، التي قد تحصل فيما إذا ظل الموظف فقيرا فقرا مدقعا، مع ما يترتب على ذلك من تعطيل ماكينة الدولة، تلك الآلية التي تضبط البشر في سياق انسجام، يطبعه طابع العقد الاجتماعي، وما زال ذلك الرئيس يتباهى بإنجازه التاريخي. وسرعان ما زاد حجم الوعي والمطالبات الحقوقية، ففطن الموريتانيون إلى أن عصر الإنسانية قد بزغ، وليس من اللائق أن يبقى الموريتاني متقشفا في بلد غني، نهبه المستعمر نهبا، وخرج تاركا التبعية مكان الاستعمار المباشر، فتواصل النهب والسلب، ولم يستقل القرار الموريتاني تماما، وربما لن يستقل حتى المعاد. وتحاذى النهب الخارجي المباشر واللامباشر مع نهب وطني لا وطني، قام به الأبناء السامون في الوظائف، الذين تلطخت أيديهم بالغلول والمال العام، وتركوا الوطن حجرا على حجر يابسا، وعطلوا النصوص، وخانوا الأمانة، وهنا تجد حرب الفساد، التي أعلنها الرئيس محمد/عبد العزيز سببا لها، وإلا فلا معنى لها، وهي الحرب الطاحنة، لو أنها لم تصطدم بكثير من المطبات، فلكل رئيس "أوليغارشا" تظهر في عهده من أقاربه، وأقارب زوجته ومحيطها، وهذا الأمر الشائع يظهر حتى في حالة الجنرال والوزير والمدير، حيث لكل حاشية وماشية، وربما لا يوجد إلا مدير واحد، وجنرال واحد، ووزير واحد لم يقدم فلسا لأهله، والزوجة لا تنسى عندنا، وتسهم إسهاما في إكمال مهمة الشيطان، وتعبيد طريق الجحيم. الرئيس محمد/عبد العزيز يهم حاليا بحسب المتابعين للشأن العام بزيادة 100% على الأجور، ليسهم إسهاما غير مسبوق في تحرير الموظف الصغير من قبضة جحيم سيده في العمل، وهذا الأمر الشائع –ربما- يكون في 28 نوفمبر، وعلى أبعد الحدود سيكون في يناير ليوافق وعدا انتخابيا قطعه الرئيس على نفسه، والتخوف حاصل من أن يتكرر سيناريو الزيادة السابقة، التي وإن كانت زيادة، إلا أنها لم تكن قادرة على تغيير حال موظف يحاصره الغلاء، وتأكله الضرائب على السكن والكهرباء والماء والهواء والصحة والكلام.