إنْ كانتْ ماهيَةُ الفساد السياسي ومظاهرُه متنوّعة، وتتعدّد من بلدٍ إلى آخر، فإنّ مظاهر الفساد السياسي في البلدان العربية تكادُ تكونُ متشابهة، طالَما أنّ الآليات التي اتُّبعتْ في تسلّم السلطة في معظم الدول العربية، لم تكن خيارا ديمقراطيا.
هذه الآليات غيرُ الديمقراطية المُتّبعة في العالم العربي، حسب تقرير لمنظمة "ترانسبارانسي" الدولية، شمل خمس دول عربية من بينها المغرب، تجعل الأنظمة الحاكمة، سواء الأنظمة الملكية الوراثية، أو الأنظمة الجمهورية، تفتقد إلى الشرعية.
دساتيرُ شَكليّة
التقرير الحديث، الذي أنجز خلال شهر يوليوز الماضي، وشمِل كلّا من مصر، المغرب، تونس، اليمن، لبنان، فلسطين، عدّد أبرز مظاهر الفساد السياسي في العالم العربي في أحد عشر محورا، جاء على رأسها السيطرة على السلطات بدلَ الفصْل بينها.
ويقول التقرير في هذا الصدد إنّ هيْمنة السلطة التنفيذية على باقي السلطات (التشريعية والقضائية) سمح للسلطة الحاكمة بالاحتكار والتفرّد في اتخاذ القرار، وسمح بـ"اختطاف الدولة"؛ وهو ما يؤدّي إلى النظام الاستبدادي، والمسّ بالحقوق والحرّيات العامّة.
وعلى الرّغم من تنصيص دساتير عدد من البلدان العربية على الفصْل بين السلطات، إلّا أنّ التقرير سجّل أنّ المشكل يكمن في غياب تفعيل هذه النصوص، التي تظلّ شكلية، طالما أنّ الحُكّام (ملوكا ورؤساء)، هم الذين يسيْطرون على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
سلطة تنفيذية دون قيود
إحْكامُ الحُكّام العربية للسيْطرة على السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، أفضى -حسب التقرير- إلى جعْل السلطة التنفيذية تعملُ دون قيود أو ضوابط أو مُحدّدات فعّالة، وهو ما يقود إلى غياب الشفافية وضعف نظام المُساءلة، ما أتاح للمتنفّذين السيطرة على الثروة إلى جانب السلطة.
ويشير التقرير إلى أنّ مُعظم الدول العربية التي شملها، لا تتوفّر على تشريع خاصّ وشامل يمنع تضارب المصالح لدى شاغلي الوظائف العليا، إذ يمكن الجمع بين وظيفة أو خدمة عامّة في إحدى مؤسسات الدولة وبين مصلحة مباشرة أو غيرِ مباشرة في شركة من شركات القطاع الخاصّ، واعتبر التقرير ذلك "أمرا شائعا".
وعلى الرغم من إشارة التقرير إلى أنّ بعض الدول التي شملها لديها نصوص وأحكام تشريعية واضحة تمنع نشوب تضارب المصالح في وظائف محدّدة، مثل الوزير ونائبه، إلّا أنّ عدم تطبيقها على أرض الواقع يجعل من التضارب أمرا واقعا.
في المغرب لا يبْدو الواقع مختلفا عمّا هو عليه في باقي البلدان التي شملها التقرير، رغم تنصيص دستور 2011 في الفقرة الأولى من الفصل 32 على أن يعاقب القانون على المخالفات المتعلقة بتنازع المصالح.."، غير أنّه لم يصدر القانون المتعلق بتحديد حالاته تضارب المصالح لحدود إعداد التقرير.
سيْطرة رأس السلطة التنفيذية في البلدان العربية على باقي السلطات، كانَ من توابعها، أيضا، عدم اعتماد مبدأ كشف المسؤولين عن ممتلكاتهم، وهو ما يُعزّز من قدرتهم على الانتفاع من السلطة، وأتاح لهم التجارة بالنفوذ الذي يحوزونه، رغم وجود تشريعات تهمّ هذا المجال.
تشريع عاجز وقضاء متحكّم به
ولَئن كانت السلطة التشريعية هيَ التي تسهر على مُراقبة السلطة التنفيذية، كما هو متعارف عليه في الأنظمة الديمقراطية، فإنّ الوضع في العالم العربي مختلف تماما، إذْ خلُص التقرر إلى أنّ عمليّة احتواء البرلمانات سهّلت سنّ تشريعات للمحافظة على بقاء الأنظمة ووجّهت الموازنات وحاصرت المعارضين وقزّمت دور البرلمانيين.
وأشار التقرير إلى أنّ السلطة التشريعية في معظم البلدان التي شملها، عانتْ من سيطرة السلطة التنفيذية، كما غابتْ عنها المعارضة السياسية الفعالة، وهو ما أدّى إلى فشل البرلمانات في هذه الأنظمة في لعب دور أساسي في محاربة الفساد، كما فشلت ف كسر الحلقة المغلقة التي يشكلها الفساد السياسي.
ولا يبْدو واقع السلطة القضائية أحسن حالا من واقع السلطة التشريعية في العالم العربي، إذ أشار التقرير إلى أنّ جهاز النيابة العامّة في معظم الدول العربية يوجد مباشرة في يد المسؤول الأوّل، ويُستخدم لتعزيز نفوذ النخب الحاكمة، وحمايتها من المساءلة وتسهيل إفلاتها من العقاب.
فَضلا عن عدم فعّالية السلطتين التشريعية والقضائية في مراقبة ومحاسبة رأس السلطة التنفيذية، و "النخب الحاكمة"، تلجأ الأنظمة العربية الحاكمة إلى وسائلَ عدّة لمنع السلطة الرابعة (الإعلام) من القيام بالدور المنوط به باعتباره أداةً رقابية فعّالة لمراقبة السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية.
هسبريس