حين وضع اليونانيون النظام الديمقراطي وصفوا المعارضة بأنها:"معارضة إيجابية"؛ بمعنى أنها تشترك في العملية الديمقراطية وتعترف بنتائجها. وحددوا العملية الديمقراطية ذاتها بأنها تنافس شريف بين أصحاب مشاريع اجتماعية يعتقد كل واحد منهم أنه يقدم المشروع الأمثل للرقي الاقتصادي والسلم الإجتماعي، وسيادة القانون. وبما أن كل صاحب مشروع يعتقده الأمثل حددت الديمقراطية حكما يفصل بين البرامج المتنافسة على الصالح العام. ولم يكن هناك حكم أفضل من الشعب ذاته الذي يدعي كل فريق التفاني في خدمته والسهر على مصالحه. وحتى يطلع الشعب على عروض المتنافسين شرعت الديمقراطية الحملات الإنتخابية ليطلع الناس على برامج المترشحين لخدمة الشعب. ثم يأتي الإقتراع على البرامج، الذي يستوي فيه المواطنون المتمتعون بحقوقهم المدنية، فيختار الشعب البرنامج الذي يراه الأصلح لإدارة الشأن العام خلال المرحلة المحددة في النظام الإنتخابي. تسفر الإنتخابات بالضرورة عن فائز وخاسر. يستلم الفائز مقاليد السلطة لينفذ البرنامج الذي اختاره الشعب، ويعترف الخاسر بنتائج الإنتخابات ليصبح معارضة تنتقد البرنامج ذاته، وتقوم وتقيم نتائج تطبيقه على أرض الواقع مقدمة بدائل تعتقدها أفضل مع احترامها التام لخيار الشعب...
تلك هي الديمقراطية كما فكرها الأثينيون، وتلك هي روحها التي رافقتها رغم اختلاف التطبيقات على مر العصور. صحيح أن تلك التطبيقات قد عرفت انحرافات عن المسار الأمثل للديمقراطية، وغالبا ما وجه اللوم فيها للذين يحكمون بسبب ميلهم إلى التصرف في الديمقراطية. لكن اللوم قلما وجه للمعارضة بسبب قلة إدراك أهمية إيجابيتها لاستمرار العملية الديمقراطية. فحين تصبح المعارضة سلبية تتخلى عن دورها الذي حدده لها النظام الديمقراطي ذاته. فواجب المعارضة أن تكون "معارضة إيجابية". لكن هذه الإيجابية لا تتحقق إلا إذا لازمتها الوطنية؛ بمعنى تغليب المصالح الوطنية على الطموحات الشخصية والمكاسب الحزبية. فحين تنظر المعارضة إلى العملية الإنتخابية بصفتها فرصة لتحقيق "مكاسب" فتجري حساباتها لتتأكد من المكاسب فتشارك (تواصل، والتحالف في الإنتخابات التشريعية والبلدية)، أو تتيقن الخسارة فتقاطع (تواصل والتحالف في الانتخابات الرئاسية)، تفقد المعارضة بذلك صفة "الإيجابية" لأن المصلحة الوطنية لم تعد غاية ممارستها السياسية، وإنما المصالح الضيقة، وطموح النخبة هو الذي يحركها.
كانت الإنتخابات التشريعية والبلدية التي أجريت حسب نظام النسبية الذي وافقت عليه الأغلبية الرئاسية من أجل ضمان تمثيل واسع لأحزاب المعارضة، و هو ما يظهر إدراك الأغلبية الرئاسية لأهمية دور المعارضة في تسيير الشؤون المحلية للبلديات، وضرورة تعدد ألوان الطيف السياسي تحت قبة البرلمان حتى يكون تمثيله شاملا لكل الحساسيات السياسية والاجتماعية في الوطن، مثالا للنزاهة والشفافية. وقد برهنت على أن الأغلبية الرئاسية لا تريد إقصاء أي توجه سياسي له حضوره ومناصروه مهما قلوا، وتلك قمة الإنفتاح السياسي والتسامح الفكري.
لا ينبغي الوقوف طويلا عند دعوى المعارضة تخوفها من تزوير الإنتخابات، فقد شاركت من قبل في ظل أحكام سابقة، بجميع أطيافها، في انتخابات تعلم علم اليقين أنها مزورة، كما تعلم علم اليقين أن هذه الإنتخابات ستكون نزيهة وشفافة بشهادة المراقبين المحليين والدوليين، كما حدث في الإنتخابات التشريعية والبلدية الماضية. وتعلم المعارضة علم اليقين أن المرشح محمد ولد عبد العزيز سيفوز على كل مرشحيها دون حاجة إلى تزوير، كما فاز عليهم في انتخابات 2009 فلجأوا إلى التفسيرات السحرية لواقع موضوعي هو أن الشعب الموريتاني منح ثقته لمحمد ولد عبد العزيز. في تلك الإنتخابات كانت المعارضة مشرفة على كل شيء؛ اللجنة المستقلة للإنتخابات، ووزارات السيادة، ولم يكن للإدارة دخل في تنظيم الإنتخابات... بفضل كل هذه الإجراءات خسرت المعارضة الوصول إلى دور ثان، وحسم الأمر منذ الدور الأول، ليتنافس زعماء المعارضة "التاريخيين" على الرتبة الثانية بعيدا خلف محمد ولد عبد العزيز.
التفسير الوحيد لدعوة المعارضة إلى مقاطعة هذه الإنتخابات الرئاسية هو يقينها بعجزها عن هزيمة عزيز في أي انتخابات، فسوفت في الحوار لتنتهي به إلى الفشل رغم كل التنازلات التي قدمتها الأغلبية الرئاسية. فكان موقف المقاطعة موقفا يتنافى مع روح الديمقراطية والتنافس الشريف؛ فالواجب الوطني يفرض على المعارضة المشاركة في الإنتخابات مع يقينها بالخسارة لأن الممارسة الديمقراطية ليست لعبة كسب وخسارة وإنما هي طريقة لإدارة الشأن العام حددت الأدوار فيها بشكل واضح لكل من الأغلبية والمعارضة، وحين تتخلف إحداهما عن النهوض بدورها تتخلى عن واجبها الوطني. أضف إلى ذلك أن دعوة الناخب إلى عدم ممارسة حقه في اختيار من يحكمونه حجر عليه واستخفاف بحقوقه التي يرهن تمتعه بها باستفادة نخبة سياسية معينة منها.
إن الواجب الوطني يفرض على الطبقة السياسية تشجيع الممارسة الديمقراطية وحث المواطنين على ممارسة حقهم الإنتخابي تدريبا لهم على الإهتمام بالشأن العام ليدركوا أهمية دورهم في اختيار من يحكمونهم. أما حين تتحكم فيهم الطبقة السياسية فتمنعهم من التصويت خدمة لمصالحها الخاصة فإنها بذلك تمارس تزويرا فاضحا للعملية الديمقراطية التي تقيسها على مصالحها فتحاول إفسادها حين ترى أن تلك المصالح مهددة بالسلوك الديمقراطي للمواطن. لكننا على يقين أن المواطن الموريتاني قد بلغ من النضج السياسي ما يؤهله لمعرفة مصالحه، ومصالح وطنه، وسيشارك بكثافة في انتخاب رئيسه يوم السبت القادم. فالمشاركة تعطيه حق الإختيار بين خمسة مترشحين، وتمكنه من أداء واجبه الوطني، وإرضاء ضميره بمنح صوته للمرشح الذي يعتقد أن برنامجه الإنتخابي هو الأفضل للتطبيق خلال الخمس سنوات القادمة. أما المقاطعة فتلغي كل الخيارات، وتحجر على المواطن الذي يمنع من ممارسة حقه في الإنتخاب لأن أحزابا سياسية، وأشخاصا لم يجدوا مصالحهم الخاصة في المشاركة في الإنتخابات فحاولوا الحجر على الناس. لكن المواطن الموريتاني سيقولها صريحة يوم السبت القادم حين يتجه بكثافة إلى مراكز الإقتراع ليمنح صوته للمرشح محمد ولد عبد العزيز اقتناعا ببرنامجه الإنتخابي، وتثمينا لإنجازاته في مأموريته المنصرمة...
اللاهثون على هوامش عمرنا *** سيان إن حضروا وإن هم غابوا
سيدي محمد ولد ابه