بقلم: محمد الأمين ولد الفاضل
شهدت بلادنا خلال الأيام الماضية، أعمال شغب واسعة، بدأت مباشرة بُعيد الإعلان عن وفاة المواطن عمار جوب غفر الله له، وإذا كان هناك من هو مسؤول جنائيا عن أعمال الشغب تلك، والتي أدت إلى خسائر مادية كبيرة وإلى وفاة الشاب محمد الأمين في بوكي رحمه الله، فإن هناك في المقابل من هو مسؤول سياسيا وإعلاميا عن أعمال الشغب تلك، وذلك من خلال مشاركته في عملية الشحن العاطفي والتجييش الإعلامي، والتي أدت في المحصلة النهائية إلى أعمال الشغب تلك.
لنعد قليلا إلى تسلسل عمليات الشحن والتجييش العاطفي التي مهدت لأعمال الشغب والنهب..
(1)
سارع النائب العيد ولد محمدن بعيد حادثة الوفاة، ومن داخل المستشفى الوطني، وحسب ما نقل عنه موقع "صحراء ميديا" إلى القول بأن الفقيد عمار جوب "تعرض للتعذيب في المفوضية، وهناك ضرب وجرح ظاهر على أماكن من جسمه"، وأضاف النائب العيد من داخل المستشفى بأن "المتبادر وحسب الخيوط التي حصل عليها، تفيد أن الشاب توفي في المفوضية، بسبب التعذيب" .
كان النائب العيد حاضرا لعملية التشريح بصفته محاميا لعائلة الضحية، ولكنه لم يتحدث بلسان المحامي، ولا بلسان الحقوقي، وإنما تحدث ـ وللأسف الشديد ـ بلسان السياسي المعارض الخارج للتو من انتخابات يرى بأنها مزورة ، والذي لا يجد حرجا في استغلال أي حادثة لتجييش الشارع ضد النظام، فما كان منه إلا أن ألصق جريمة القتل بالشرطة في لحظة مضطربة سياسيا وحرجة أمنيا، وذلك من قبل أن تتوفر لديه الأدلة الكافية.
(2)
لم يتردد النائب محمد الأمين ولد سيدي مولود هو أيضا في المسارعة إلى إلصاق جريمة قتل عمار جوب بالشرطة، وكان ذلك من خلال العديد من المنشورات والتصريحات والرسائل الصوتية، وكان من أوائل منشوراته عن الحادثة هذا المنشور : "الصوفي ولد الشين" من جديد، إنه المرحوم عمار چوب، ذهبت به الشرطة البارحة بعد العاشرة في كامل صحته، ليتصلوا على أهله فجر اليوم أنه توفي، كعادتهم في مثل هذه الجرائم. فهل يقف الرأي العام معه كما فعل مع الصوفي حتى يحاسب الفاعلون وتتوقف هذه الجرائم؟!
قد يبرر المبررون وقد يتجاهل المتجاهلون، وقد تصدر الشرطة بيانات كاذبة وتفبرك شهادات وتصريحات كل ذلك حصل مع الصوفي من قبلُ، لكنه لم يستطع حجب الجرم أخيرا. قفوا مع هذا الشاب وأهله حتى تنكشف الحقيقة وتتجسد العدالة." انتهى منشور النائب.
هنا أكد النائب في هذا المنشور وفي غيره مما نشر أن الشرطة وراء الجريمة كعادتها، وطالب الرأي العام بالوقوف مع الضحية حتى تُحاسب الشرطة، والتي توقع منها أن تصدر بياناتٍ كاذبةً، وأن تُفبرك شهاداتٍ، مع قناعته أنها في النهاية لن تتمكن من حجب الجريمة.
( 3)
في نفس الاتجاه ـ وبحماس أكبر ـ سار الكاتب الصحفي أحمدو الوديعة، والذي كثَّف من النشر حول الحادثة، وكان مما نشر على حسابه في الفيسبوك : "شريك في قتل جوب والصوفي كل مروج لروايات القتلة، ومحاولاتهم التستر على الجرم والإفلات من العقاب".
بالنسبة للكاتب الصحفي أحمدو الوديعة فقد اعتبر أن كل هؤلاء شركاء في جريمة قتل عمر جوب:
- مروجو روايات القتلة، والقتلة هنا يَقصدُ بها الشرطة؛
- كل من يحاول التستر على الجريمة؛
- كل من يساهم في إفلات المجرمين من العقاب.
(4)
في نفس الاتجاه سار الكاتب الصحفي حنفي ولد الدهاه، وعندما نتحدث عن الصحفي حنفي فلا بد من أن نتحدث عن الحقوقية آمنة منت المختار، والتي نقلت أول رواية تدين الشرطة، وقد تم تداولها بشكل واسع، وهي رواية اعتمدها الكاتب الصحفي حنفي، والذي كتب في منشور له : "الشرطة تستصحب "عمر جوب" من منزله في السبخة، ليلة البارحة، وهو في كامل صحته، فيصبح وقد فارق الحياة..
القصة كما وردتني من مصادر متطابقة تقول: إن الشاب الذي كان مشهورا في حيه، باع سيارته ليصرف ثمنها على الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عبر المكسيك، غير أن أفراداً من الشرطة اقتادوه البارحة إلى مخفرهم، بعد أن قاموا بتفتيشه وعثروا على المبلغ المالي بحوزته، وقد تعرض للتعذيب بعد مقاومته لهم، لما أرادوا أن يسلبوه إياه.
عمر جوب فارق الحياة تحت وطأة التعذيب، و تم نقله للمستشفى. وحسب المصادر فإن الشرطة ترفض تشريح جثته.
فإلى متى يستمر استهتار إدارة الأمن بأرواح المواطنين؟!
انتهى المنشور الذي أكد فيه الكاتب الصحفي حنفي الدهاه بأن عمار جوب تُوفيَّ تحت وطأة التعذيب، وأن الشرطة تَرفضُ تشريحَ الجثة.
( 5)
لم يتأخر الصحفي الهيبة ولد الشيخ سيداتي مدير أهم وكالة إخبارية مستقلة في البلد، في السير في نفس الاتجاه، بل إن الوكالة نفسها سارت وللأسف الشديد في تغطيتها للحادثة في نفس الاتجاه.
وكان مما كتب مدير وكالة الأخبار المستقلة : "من غير المناسب أن تكون شرطة السبخة التي يتهمها الأهالي بقتل ابنهم، هي من يتولى الآن تفريق المتظاهرين داخل المستشفى وفي محيط المشرحة".
هنا أراد الصحفي الهيبة أن تتولى مُفوضيةُ شرطة أخرى تفريقَ المتظاهرين بدلا من المفوضية المُتهمةِ بجريمة القتل. بالطبع لم يطرح الهيبة السؤال الأذكى صحفيا، فبدلا من أن يسأل لماذا حضرت مفوضية شرطة السبخة لتفريق "المحتجين"، كان عليه أن يسأل لماذا لم يتظاهر "المحتجون" أمام مفوضية شرطة السبخة رقم 1 المتهمة بقتل الضحية، كما فعل المحتجون من قبل بعد وفاة الصوفي، والذين كانت أغلب احتجاجاتهم أمام مفوضية دار النعيم رقم 2؟
طبعا هذا السؤال لم يُطرح لأنه إن طُرح كان سيصيب حجج القائمين على الشحن والتجييش في مقتل، وهم الذين حاولوا "تلوين الحادثة" من خلال تصنيفها في إطار الأعمال العنصرية التي تمارسها إحدى المكونات الوطنية ضد مكونة أخرى..الذهاب إلى مفوضية السبخة كان سيظهر أن ضابط المداومة المتهم بقتل الضحية من نفس شريحة الضحية بل ومن مدينته، وكان سيكشف أيضا أن المفوضية تعرف الضحية، وأن سيدة من شريحة أخرى كانت قد عفت عن الضحية بعد أن قتل ابنها، مما يعني أن العداء بين الشرائح والمكونات ليس بتلك الصورة التي تروج لها نخب الشحن والتجييش العرقي.
(6)
ويبلغ مستوى الشحن الإعلامي والسياسي ذروته عندما تقرر ستةُ أحزاب معارضة إصدارَ بيان في اليوم الموالي للحادثة جاء في مقدمته : "في ظروف غامضة وفي تطور خطير، أُخرِج صباح أمس الاثنين، المواطن عمر حمادي جوب، جثة هامدة من مخافر مفوضية الشرطة رقم:1 بمقاطعة السبخة بولاية انواكشوط الغربية، وذلك بعد فترة وجيزة من توقيفه لديها".
هذه الفقرة من البيان والتي تؤكد بأن الضحيةَ خَرجَ جُثَّةً هامدةً من مفوضية الشرطة، وذلك على الرَّغمِ من اتفاق الجميع بأن الوفاة حدثت داخل المستشفى، لم يكتبها نشطاء مراهقون على حساباتهم الشخصية في الفيسبوك، بل كتبها من تولى صياغة بيان موقع من طرف أهم ستة أحزاب سياسية معارضة في البلد!!
الغريب حقا أن أحزاب المعارضةِ التي حَكمت بخُروجِ الضَّحيةِ جُثَّةً هامدةً من مخافر الشرطة، طالبت في الوقت نفسه بتحقيقٍ شفافٍ، فهل بَقيَت هناك حَاجةٌ إلى التَّحقيقِ ما دامَ الكُلُّ قد حَكَمَ مسبقا بأن الشُّرطَةَ هي القَاتِل؟
لا أدري إن كانت أحزاب المعارضة قد قررت أن تشارك ببيانها هذا في عملية الشحن والتجييش فجاءت بمعلومة كاذبة مفادها أن الضحية خرج جثة هامدة من مفوضية الشرطة، أم أن هذه الأحزاب كانت هي بنفسها ضحية للشحن فصدقت ما ينشره ويصرح به البعض، وكان مما صدقت أن الضحية خرج جثة هامة من مفوضية الشرطة.
ومهما يكن من أمر فإن كل هؤلاء الذين شاركوا عن قصد أو عن غير قصد في عملية الشحن العاطفي والتجييش الإعلامي والسياسي مطالبون اليوم بالاعتذار للشعب الموريتاني عما تسببوا فيه من أعمال شغب ونهب طالت عدة مدن موريتانية، كما أنهم مطالبون بالاعتذار لأسرة الشاب محمد الأمين الذي توفي في مدينة بوكي بفعل رصاصة أطلقها شرطي، والذي يجب أن يحقق معه جنائيا، وأن يعاقب بقسوة إذا ثبت أنه استخدم السلاح دون مبرر.
أشير في ختام هذه الفقرة بأني اكتفيتُ في الفقرات السابقة برصد ما نشره صحفيون كبار، وبما صرح به سياسيون كنا نعول عليهم كثيرا في قيادة معارضة قوية ومسؤولة . أما من عرفوا أصلا بالتحريض واستغلال كل حدث لإشعال الفتنة فلم أتحدث عنهم هنا، وذلك لأن ما قاموا به من تحريض كان متوقعا منهم.
(7)
إن الواجب الأخلاقي يقتضي منا في هذا المقام أن نتحدث عن الوجه المضيء في التعامل مع هذه الحادثة، والذي أظهره أولئك الذين وقفوا بقوة ضد عملية الشحن، وحاولوا أن يكونوا رجال إطفاء.
لقد غاب الصف الأول من داعمي النظام، المستفيدين من تعييناته وترشيحاته عن المواجهة مع مروجي خطاب الفتنة، وحضر الصف الثاني من الداعمين، وذلك على الرغم من أن جلهم لم يستفد حتى الآن من النظام.
ولعل الحاضر الأبرز في هذه المواجهة هم بعض المستقلين سياسيا، وبعض المعارضين للنظام، والذين يحسب لهم أنهم فرقوا في لحظة وطنية حساسة بين معارضة النظام ومعارضة الدولة الموريتانية، وعند الحديث عن هؤلاء لا بد أن نذكر المدون المقيم في كندا الطالب عبد الودود، والذي أختلف كثيرا مع أسلوبه الجارح في النقد. هذا المدون المعارض المقيم في الخارج يُحسب له أنه وقف ـ وبقوة ـ ضد عملية الشحن، وضد كل أعمال الشغب والنهب التي حدثت بعد ذلك، وذلك على العكس من مدون آخر في الخارج، تم استغلال حسابه في الفيسبوك، وكما هي العادة، من طرف مجموعة متخفية أرادت ـ وبكل ما لديها من أعواد كبريت ومن بنزين - أن تستغل حادثة وفاة عمار جوب لإشعال النيران في كل مكان من موريتانيا.
حفظ الله موريتانيا..