الدونكيشوتية الثقافية

أربعاء, 2014-10-15 12:14

كان التمييز في السبعينيات يتم على الصعيد الإيديولوجي والثقافي بين البورجوازية والطبقات الشعبية، وبين الرجعي والتقدمي. ثم بدأ التمايز يأخذ صورة أخرى بين الحداثي والعقلاني والعلماني من جهة، والتقليدي والسلفي من جهة ثانية. وواضح ان هذه التمايزات تتشكل في كل حقبة بكيفية مغايرة عن سابقاتها، وإنْ كانت بعض المفاهيم تظل قائمة، متخذة أبعادا أخرى. غير انه، ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ايلول بدأ يهيمن تمييز آخر يتعدى الطبقة والانتماء الثقافي والفكري ليصبح بين الإرهابي وغير الإرهابي. فتلاشت بذلك مختلف التصنيفات التي سادت قبل هذه المرحلة، وتساوت الليبيرالية والسلفية والعقلانية، وانمحت الرجعية والتقدمية، ما دام الذي يوحدهما هو تمايز الإرهاب.
صار التمييز يأخذ دلالات جديدة لا تتأسس على قاعدة الانتماء الفكري والإيديولوجي، أو الانتماء الاجتماعي، إذ حول كل ذلك ليتمحور حول الديني والإثني. فتجلت المذاهب والطوائف الدينية (سنة ـ شيعة) وبرزت الإثنيات (عرب ـ كرد ـ أمازيغ) وصارت كل هذه التمييزات تكتسب شرعيتها من تصنيفها حسب موقفها من الإرهاب. وواضح ان الذي ولد هذا التمايز (أمريكا وحلفاؤها) هم الذين يحددون الشرعية من عدمها، حسب المواقف في تلاؤمها أو تعارضها مع السياسة الأمريكية. فتدخل جماعات في هذا التصنيف أو ذاك في «قائمة» الإرهاب. وبما ان الأرضية السياسية رجراجة، يمكن ان يدخل اليوم في لائحة الإرهاب من كان بالأمس القريب حليفا في الصراع حسب مقتضيات التمايز. وبالمنطق نفسه يمكن ما اعتبر إرهابا بالأمس، ان يغدو نصيرا في مواجهة ما صار إرهابا اليوم. 
ان التمايزات التي تبنى على حساب الظرفية السياسية لا يمكنها إلا ان تكون عابرة ومتحولة. ومعنى ذلك انها تستبعد وتلغي التمايزات الجوهرية الدائمة والثابتة التي لم يتم تجاوزها. وهذا هو المشكل الأساس الذي يتخبط فيه التحليل السياسي العربي المعاصر. انه ينجرف وراء الطارئ والعابر، ويغفل، وهو يمارس دوره الثقافي، الثابت والجوهري. وعندما لا يتم الانطلاق من الثابت في قراءة المتحول، لا يمكن لتحليلنا إلا ان يكون طارئا وعابرا. ان عدم الأخذ بمبدأ «التناقض» في قراءة الأحداث لا يمكن إلا ان يسلمنا في الوقوع في دائرة التغييب، والانجراف وراء الأحداث دون ان نكون قادرين على وضعها في سياقاتها، واستشراف آفاقها.
يظل التمايز الجوهري، بغض النظر عما هو سائد اليوم لانه متغير، بين قوى التقدم وقوى التأخر. نعتبر هذا التمايز جوهريا لانه متعال على الزمان والمكان ولأن له علاقة بالصيرورة التاريخية التي يعمل الإنسان من أجل الفعل فيها لمصلحته في تحولها. وهو نفسه الذي بمقتضاه يمكننا قياس درجة التمايزات الطارئة. لقد كان أهل الكهف، كما يقدمهم لنا القرآن الكريم، في زمانهم مع التقدم وهم يتبنون عقيدة مخالفة لما هو سائد. لكن انصرام الزمن، جعلهم حين عادوا إلى العالم بعد غياب طويل، يرون أنفسهم غرباء عنه، فلم يكن لهم سوى الرجوع إلى الكهف. ويمكن قول الشيء نفسه عن دون كيشوتي لسيرفانتيس. لقد تغير العالم من حوله، ولكنه بسبب قراءاته لروايات الفروسية الوسطوية، حاول استرجاع قيم القرون الوسطى، فانتهى إلى الخبل والغربة عن العالم. ولكنه استرجع رشده، بعدما تبين له ان عالم الكتب الذي انغمس فيه مختلف عن العالم الذي يعيش فيه.
تبدو لنا الكيشوتية الثقافية في وطننا العربي واضحة في انخراط المثقف في عالم الإعلام والسياسة الذي يهندسه من يعمل من أجل «التقدم» الذي يصب في مصلحته، متناسيا دوره الأساس في خدمة التقدم العربي. ليست الكيشوتية، فقط هروبا إلى الوراء، ولكنها أيضا يمكن ان تكون هروبا إلى الأمام حين لا تصبح قادرة على التلاؤم مع العصر الذي تعيش فيه وتدبير اختلافاته وتناقضاته. ويبدو ان التمايز الذي فرضته أمريكا وحلفاؤها لا يمكنه سوى ان يولد التمايزات الدينية والمذهبية والإثنية التي هي نقيض التقدم، مهما كانت شعاراتها عادلة ومطالبها شرعية، وخصوصا حين تصبح متمحورة على الذات ضد ذات أخرى. بذلك تنتفي المصلحة العامة التي بواسطتها يمكن ان يتوحد الجميع من أجل التقدم الذي هو في خدمة الإنسان بغض النظر عن معتقداته الدينية أو أصوله العرقية. 
تتجلى الكيشوتية الثقافية في كل النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية والانفصالية التي تسود اليوم في الوطن العربي ـ الإسلامي. ولذلك لا يمكن سوى معاينة آثارها على الواقع المرير لتأكيد ذلك. لطالما تحدثنا عن «السلفية» منذ عصر النهضة. ولسنا اليوم سوى أمام «سلفيات» جديدة متعددة الأشكال والأطياف. وليست السلفية في معناها اللغوي العام سوى «استرجاع حياة السلف» واتخاذها نموذجا للحياة في زمان غير زمانها. 
ان عدم التفكير في المستقبل، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو المجتمع أو الوطن، أو على مستوى إنتاج هذا الإنسان، من خلال الأدب والإعلام والثقافة، بهدف التقدم الذي يخدم الجميع ليس سوى كيشوتية، مهما كانت شعاراتها. وما لم نضع في الاعتبار التمايز الجوهري، فإن انصرافنا إلى التمايزات الثانوية والطارئة لن يكون سوى تكريس للتأخر وديموته.

ناقد مغربي

سعيد يقطين