خلال السنوات الأخيرة تحوّل نظام الحكم في دول أفريقية عديدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر وأصبحت في قبضة حكم العسكر، الذين أطاحوا برؤسائها المنتخبين ديمقراطيا، مثلما حدث في كل من مالي وغينيا وتشاد والسودان وبوركينا فاسو، وانضمت إلى تلك القائمة مؤخرا النيجر، فيما عُطِّلت الانتخابات في بلدان أخرى بالقارة السمراء.
ويرى أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في جامعة "تافتس"، أن سلسلة الانقلابات تلك مؤشر على أن جزءا كبيرا من القارة، معظمها في منطقة الساحل، حادت عن طريق بناء دول مستقرة.
كما يرى، في مقال له نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تحت عنوان "الطوفان الذي يواجه قادة أفريقيا سيزداد سوءا"، أن الانقلابات تثير سؤالا مقلقا يؤثر على العالم بأسره، هو: كيف يمكن للبلدان الفقيرة التي تفتقر إلى الأمن بناء نظام سياسي ومنح مواطنيها الثقة في أن الحكومة المنتخبة ديمقراطيا تستطيع تلبية احتياجاتهم؟
لماذا تكثر الانقلابات في أفريقيا؟
وخلال السنوات القليلة الماضية، تعاملت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، مع كل انقلاب عسكري يقع في منطقة الساحل بصفته أزمة خاصة.
وقد ذهب بعض المراقبين إلى توجيه أصابع الاتهام إلى مؤامرات تحيكها روسيا أو "المنظمات الإرهابية" في المنطقة بصفتها المسؤولة عن تلك الانقلابات. لكن أليكس دي وال يرى في مقاله أن مجموعة فاغنر الروسية و"الجماعات الجهادية" المسلحة بالمنطقة براء من ذلك، فهم مجرد انتهازيين.
ويلاحظ الكاتب قواسم مشتركة بين كل بلدان الساحل الأفريقي التي استولى فيها الجنرالات على الحكم مؤخرا، أبرزها تفشي الفساد الذي أسهم في إضعاف الإدارة المدنية وتقويض مصداقية قادتها السياسيين، في حين تُقدم القوى الأجنبية الدعم للعسكر لتسهيل إقامة قواعد عسكرية لها في البلد والتعاون مع الجيش المحلي لمحاربة الإرهاب والهجرة.
ويرى أن الديمقراطية لا يمكنها الاستمرار مالم تقدم للشعوب نتائج ملموسة. فالناس في أفريقيا، مثل باقي شعوب العالم، يحتاجون إلى وظائف، كما يحتاجون إلى الغذاء والسكن والتعليم الجيد والرعاية الصحية، والسلام والأمن والاستقرار.
كما يريدون أن تتاح لهم الفرصة لتحديد مستقبل بلدانهم دون أن تملي عليهم القوى الأجنبية ما يمكنهم وما لا يمكنهم فعله في بلدهم.
وتتطلع الغالبية العظمى من شعوب دول القارة السمراء إلى أن يحكمها نظام ديمقراطي، لكن تلك الشعوب سرعان ما تصاب بالإحباط عندما يخفق القادة المنتخبون في تحقيق المطلوب منهم وفق المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي، الذي يرى أيضا أن الناس عندما يرحبون بالانقلاب في تلك البلدان فإن ذلك غالبا ما يكون، لأنهم يرون أنه الطريق الممهد لانتخاب حكومة أفضل.
بين فكي كماشة
لا يملك القادة الأفارقة الذين تحملهم أصوات شعوبهم إلى سدة الحكم، مجالا يذكر للمناورة أمام تطلعات تلك الشعوب واحتياجاتها الأساسية، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع مستويات الجريمة وانعدام الأمن.
لذلك يقول الكاتب إن القادة الذين يسعون لتقديم وعود ذات مصداقية للناخبين غالبا ما يجدون أنفسهم بين فكي كماشة بعد انتخابهم: إذ يواجهون تحديات كبرى وإمكانات ضعيفة أقل بكثير من المطلوب للتعامل مع تلك التحديات.
وينقل عن ميليس زيناوي، رئيس وزراء إثيوبيا السابق، قوله -واصفا الصعوبات التي واجهها في منصبه- إن إدارة الحكم في بلاده كانت أمرا شبيها بالركض أمام انهيار جليدي.
ويعلق الكاتب بأن زيناوي وإن كان لم ينتخب ديمقراطيا، فإن توصيفه لمأزق القادة الأفارقة يبدو محقا مع مرور الوقت.
ويشير المقال إلى أن التحدي الأكبر الذي يقف حجر عثرة أمام قدرة القادة الأفارقة المنتخبين ديمقراطيا على تقديم إنجازات تعزز مصداقيتهم لدى شعوبهم هو تدهور الاقتصاد.
وهناك عوامل عديدة عمقت الأزمات الاقتصادية في القارة من بينها تفشي وباء كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا، وتغير المناخ الذي تسبب في موجات الجفاف والفيضانات والارتفاع الشديد لدرجات الحرارة التي ضربت الدول الأفريقية خلال السنوات الأخيرة.
كما يشير إلى أن تلك التحديات فاقمها النمو الديمغرافي السريع في أفريقيا. فالنيجر على سبيل المثال تعدُّ أسرع دول العالم نموا من حيث عدد السكان، إذ يبلغ نمو عدد السكان أكثر من 3% سنويا.
في حين يبلغ إجمالي سكان دول الساحل العشرة، حيث تسقط الحكومات مثل أحجار الدومينو بانقلابات عسكرية، نحو 354 مليون نسمة وفق آخر الإحصاءات، ويتوقع أن يزيد عدد سكان العديد من هذه البلدان ضِعفه بحلول عام 2050.
ويلخص المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي مقاله بأن على الأفارقة والولايات المتحدة أن يدركوا جميعا أن أفريقيا لا تستطيع حل الأزمات المتراكمة التي تعصف بمنطقة الساحل وحدها. وأنه لا أحد يملك حلا سحريا لخلق أنظمة حكم قابلة للاستمرار في البلدان الأفريقية، لأن ذلك يعد من أكثر التحديات صعوبة في العالم، ويزداد صعوبة كل عام في عالم متزايد الاحترار.