تفرض الصراعات الراهنة في بلدان إفريقيا، وما يترتب عليها من نشاط الجماعات المتطرفة في هذه الدول، واحتدام الاستقطاب الدولي للقارة الإفريقية، إلى بحث الدول الكبرى عن شريك رئيسي داخل إفريقيا لمكافحة الإرهاب، وخلال الثلاث سنوات الماضية اتجهت الأنظار إلى موريتانيا بعد نجاحها في تطبيق استراتيجية شاملة لمواجهة الإرهاب رغم تمدده في الدول المجاورة لها والمخاوف من أن تتحول بؤرة للتطرف، ومن هنا تأتي أهمية موريتانيا في ملف محاربة التطرف في منطقة الساحل الإفريقي.
الاهتمام الدولي بموريتانيا
برزت أهمية موريتانيا على الساحة الدولية خلال العامين الماضيين، من خلال تصريحات المسؤولين الغربيين والصينيين والروس، والزيارات المتبادلة بين قادة موريتانيا وقادة دول العالم.
أجرى الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني زيارة لمقر الناتو في بروكسل في 14 يناير 2021، كأول زيارة لرئيس موريتانيا لمقر الناتو منذ استقلالها عام 1960، وزار الأمين العام المساعد للحلف خافيير كولومينا موريتانيا في 31 مايو 2022 وحتى 2 يونيو 2022.
مثلت زيارة مساعد مستشار الأمن القومي بواشنطن جوناتان فاينر، إلى نواكشوط في 22 أكتوبر 2021 ترجمة لرؤية الإدارة الأمريكية لدور موريتانيا في منطقة الساحل الإفريقي، لا سيما وأنها الزيارة الأولى من نوعها لمسؤولين أمريكيين على هذا المستوى.
زارت وكيلة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند موريتانيا في 17 أكتوبر 2022، وأشادت بالدور الموريتاني في منع التطرف العنيف ومكافحة الإرهاب، مؤكدة على أن موريتانيا باتت واحة للاستقرار في منطقة الساحل ما يعزز من دورها في تعزيز الأمن الإقليمي والدولي.
وعدت المسؤولة الأمريكية، بتقديم بلادها نحو (28.5) مليون دولار خلال (5) سنوات لتغذية ( 100) ألف تلميذ سنوياً في ( 320) مدرسة ابتدائية في بعض المدن الموريتانية، خاصة وأن موريتانيا تستضيف ( 80) ألف لاجئ فارين من العنف من مالي.
لم تكن موريتانيا محط اهتمام الغرب فقط، بل أجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 8 فبراير 2023 زيارة لنواكشوط، في أعقاب توتر العلاقات بين الغرب ودول الساحل الإفريقي وانسحاب القوات الفرنسية من مالي.
تعد زيارة لافروف لموريتانيا تعزيزاً للعلاقات واستكمالاً لزيارة الرئيس الموريتاني ولد الغزواني لروسيا في 2019 أثناء مشاركته في القمة الروسية الإفريقية، وزيارة وزير الدفاع الموريتاني حنين ولد سيدي لروسيا في يوليو 2022، وفي 20 نوفمبر 2022 زار رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال موريتانيا لتوطيد العلاقات.
زار وفد عسكري إسباني في 14 فبراير 2023 نواكشوط، في إطار الدورة الـ (22) للجنة العسكرية المشتركة ورداً على زيارة لافروف، ولم تكن الزيارة الأولى من هذا النوع بين البلدين، حيث زار قائد الأركان الموريتاني مدريد في الفترة من (23- 26) يناير 2023، للتأكيد على الدور الموريتاني المحوري في مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب وتعزيز التعاون في المجال العسكري.
وقعت الدولتان في 3 نوفمبر 2022 على اتفاقية لتعزيز مكافحة الهجرة غير النظامية، بعد زيارة قائد الأركان الإسباني لموريتانيا في 17 يوليو 2022، ووزير الخارجية خوسي مانويل ألبارس في 20 يونيو 2022، ورسمت زيارة الرئيس الموريتاني إلى إسبانيا في الفترة من 16- 19 مارس 2022 أسس التعاون بين البلدين.
تعكس زيارة الرئيس الموريتاني في 4 يونيو 2023 إلى مصر، وزيارته للصين في 29 يوليو 2023، أهمية الدور الموريتاني في الأحداث الراهنة ليست في إفريقيا فقط بل العالم بشكل عام، وحجم الاهتمام الإقليمي والدولي بتعزيز العلاقة مع نواكشوط.
حجم التعاون الدولي مع موريتانيا
يرتكز التعاون الأوروبي الموريتاني في الاستثمار في استخراج الغاز الموريتاني المكتشف حديثاً، وتعمل شركتا “كوسموس” و”بي بي” في حقل ” السلحفاة أحميم” المشترك بين موريتانيا والسنغال باستثمارات تقدر بأكثر من (3) مليارات دولار، ووقعت موريتانيا مع الشركتين اتفاقية لبدء الاستكشاف في حقل ” بيرالله”.
تولي الشركات الأوروبية اهتماماً باستكشاف وإنتاج الغاز الموريتاني في الحوض الساحلي وتعمل في مقطعي “سي10 وسي2” البحريين، في ظل بحث أوروبا عن بدائل للغاز الروسي، لذا توسعت مشاريع قطاع الهيدروجين باستثمارات تقدر بنحو (60) مليار دولار.
كعادتها لم تغيب الصين عن المشهد، بل تعد شريكاً تنموياً رئيسياً لموريتانيا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين أكثر من (2.7) مليار دولار في 2021، ومن قبلها وقعت نواكشوط صفقة مع بكين لشراء بعض المعدات العسكرية في 2016. ودخل التعاون بينهما إلى مرحلة أقوى بإنشاء فريق برلماني للصداقة الموريتانية الصينية، وإعفاء الصين موريتانيا من ديون (20) مليون دولار في يوليو 2023.
يرتكز التعاون بين الناتو وموريتانيا على محاربة الإرهاب وتجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية في الساحل الإفريقي، ووضحت هذه الرؤية خلال قمة الناتو في مدريد في يونيو 2022، وأكد الأمين العام المساعد للناتو خافيير كولومينا على أهمية نواكشوط للحلف.
ترتبط نواكشوط بعلاقات تجارية مع موسكو في مجال الحبوب، وتستورد الأولى ما يعادل قيمته (31) مليون دولار من القمح، وتصدر روسيا لموريتانيا بقيمة (95) مليون دولار سنوياً من المنتجات السمكية، ووصلت الصادرات الروسية لموريتانيا نحو (37.6) مليون دولار وفقاً لإحصائيات 2020، ووقعت الدولتان على اتفاقية تعاون عسكري في يونيو 2021.
أهمية موريتانيا في الساحل الإفريقي
– نهج محاربة الإرهاب: جعلت استراتيجية مكافحة الإرهاب موريتانيا محط اهتمام دول العالم، خاصة وأنها دمجت بين معالجة الثغرات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ما يسهم في مساعدة جيرانها في محاربة التهديدات الإرهابية، ويحافظ على استقرارها السياسي مقارنة بباقي البلدان الإفريقية.
– الموقع الاستراتيجي: منحت الجغرافية ميزة نسبية لموريتانيا، لربطها بين دول المغرب العربي وغرب إفريقيا وحدودها مع مالي، ما يمكنها من لعب دور حاسم في دول إفريقيا جنوب الصحراء، كونها الدولة العربية الوحيدة داخل تجمع الساحل.
– الثروات: تعد موريتانيا ثالث أكبر الدول الإفريقية التي تمتلك مخزونا من الغاز، ولديها احتياطات من الغاز المسال تقدر بنحو (110) تريليون قدم مكعب، ويحتوي حقل ” بير الله” على (80) تريليون قدم مكعب، ويحتوي حقل ” السلحفاة” على (25) تريليون متر مكعب.
الهجرة: إن قرب موريتانيا من جزر الكناري الإسبانية من جانب المحيط الأطلسي، جعلها نقطة مركزية في قضية الهجرة غير الشرعية من دول الساحل إلى أوروبا، لذا وطدت إسبانيا العلاقات بها لمنع تدفق الهجرة غير الشرعية والجماعات المتطرفة.
الطريق إلى الساحل الإفريقي
تراجع النفوذ الغربي في إفريقيا وفي مقدمته النفوذ الفرنسي ويدفع حلف الناتو للبحث عن بدائل لإيجاد موطئ قدم داخل القارة من جديد، إذ حرصت إسبانيا على توجيه دعوة لموريتانيا في قمة الناتو في مدريد، لضمان العلاقات مع شمال وغرب إفريقيا في ظل التغيرات الجيوسياسية الأخيرة، كما تعول الدول الأوروبية على الغاز الموريتاني كحل بديل بعد انقطاع إمدادات الطرق الروسية.
رغم اعتماد الغرب سياسة بناء قواعد عسكرية داخل إفريقيا، لكن لم تفلح هذه السياسة مع موريتانيا التي أبدت تحفظها على هذه النقطة منذ تسليط الضوء عليها، وتدور العلاقات بين حلف الأطلسي ونواكشوط حول تطوير قدرات الجيش الموريتاني عسكرياً وتقديم الدعم الأمني والمعلوماتي له، باعتبار نواكشوط بوابة الغرب للساحل الإفريقي.
موريتانيا ـ مقاربة أمنية لمكافحة الإرهاب
ـ تراجعت الهجمات الإرهابية في موريتانيا، بعد موجة من الإرهاب غير مسبوقة استهدفتها في الفترة ما بين 2005- 2011، لذا أطلقت في 15 ديسمبر 2009 مشروع قانون لمكافحة الإرهاب لدعم التعاون مع حكومات إفريقيا لتشديد إجراءات مكافحة الإرهاب.
ـ أسست في 2010 لجنة لوضع استراتيجية لمكافحة الإرهاب، لمعالجة الأسباب الجذرية للتطرف ببدء حوار أيديولوجي مع (70) متطرفاً، للتوصل إلى أسباب انضمامهم للجماعات المتطرفة والبدء في إعادة تأهيلهم في المجتمع..
ـ ارتكزت استراتيجية موريتانيا على الإصلاحات الأمنية بإعداد القوات الخاصة والاهتمام بالتعليم العسكري المهني، ورفعت الموازنة العسكرية التي تضاعفت (4) مرات من 2008 إلى 2018 واهتمت بتسليح الجيش وتوفير الزي الرسمي للجنود وترميم ثكناتهم العسكرية وتوفير التعويضات المالية لكافة القوات العسكرية، ما دفع الشركاء الإقليمين لاختيار نواكشوط في 2018 كموقع لكلية الدفاع لمجموعة الساحل ” G5″.
ـ توسع العمل الاستخباراتي خلال 2022 و2023 بالاستعانة بقوات من الهجانة ” وحدة المهاريست” لتعقب المتطرفين في المناطق النائية، بجانب تنمية المجتمع وتشغيل قطاعي التعدين والمناجم لمواجهة التطرف، واستضافت نواكشوط في فبراير 2022 المؤتمر الإفريقي الثاني لتعزيز السلام ومحاربة التطرف، وتمكنت في 13 مارس 2023 من إحباط محاولة هروب متطرفين من إحدى السجن.
تقييم وقراءة مستقبلية
– تمكنت موريتانيا من أن تصبح شريكاً دولياً في محاربة الإرهاب، رغم أن العمليات الإرهابية التي شهدتها في العقد الماضي، كانت تشير إلى احتمالية تحولها لبؤرة تطرف مع تصاعد حدة الهجمات، ما يعزز من فرصها أن تصبح حلقة الوصل الوحيدة بين الغرب ودول الساحل الإفريقي في التوقيت الراهن الذي يشهد اضطرابات سياسية بين الجانبين.
– التغيرات المتسارعة التي تشهدها إفريقيا من انقلابات عسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون، حيث شهدت إفريقيا 8 انقلابات عسكرية في ثلاثة أعوام، يحمل موريتانيا مسؤولية التواصل مع حكومات هذه الدول ولعب دور الوسيط بينها وبين الغرب، خاصة وأنها ظلت عضواً في مجموعة ” إيكواس” حتى ديسمبر 2020، فضلاً عن موقعا الاستراتيجي الذي يفرض عليها متابعة نشاط الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل.
– تشهد موريتانيا حالة من الاهتمام الدولي من قبل الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا، ويعود هذا الاستقطاب غير المسبوق إلى تصاعد التوتر بين الغرب وبكين من جهة وموسكو والغرب من جهة أخرى وإن اختلفت أسباب الاستقطاب، حيث تسعى أوروبا عبر موريتانيا تأمين حاجاتها من مصادر الطاقة وضمان تواجدها في إفريقيا بعد الانسحاب الفرنسي من بعض الدول، بينما يعتمد الناتو والولايات المتحدة على إسبانيا لتوطيد العلاقة مع موريتانيا ومواجهة النفوذ الروسي والصيني في إفريقيا.
– تجد روسيا في موريتانيا الطريق لتعزيز تحالفاتها في إفريقيا رداً على علاقات الناتو أيضاً، وخلق أسواق جديدة لمصادر الطاقة والحبوب، مع إبرام اتفاقية اقتصادية وعسكرية مع حلفاء جدد، واهتمت الصين بموريتانيا لتوطيد علاقاتها مع الشرق وتعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في إفريقيا.
– تتبع موريتانيا سياسة متوازنة لإقامة علاقات قوية مع جميع الأطراف الدولية، خاصة وأنها تعد حائط صد للتطرف في الساحل وتمنع تمدده، وتقف على مسافة واحدة بين الغرب وروسيا والصين بالزيارات المتبادلة وفتح قنوات اتصال وتفاهمات مستمرة معهم.
– يصب هذا الاهتمام الدولي في صالح موريتانيا، بتلقي الدعم العسكري والاقتصادي ما يساعدها على تخطي تداعيات مرحلة الحرب ضد الإرهاب على مدار العقد الماضي.
– من المتوقع أن تزداد أهمية موريتانيا الفترة المقبلة مع تصاعد حالة الانقلابات العسكرية في إفريقيا، لذا سنشهد مزيداً من اللقاءات بين مسؤولي موريتانيا والأطراف الدولية والإقليمية، وتوقيع عدة اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع نواكشوط.