رغم تَعَدُّد المُقتربات الانثروبولوجية للبحث عن جذور المجتمع الأبوي وربطه بأنماط الانتاج، الا ان الاساطير بما تعجّ به من قابليات للتأويل التاريخي تقدّم تفاسير اولية لظواهر من هذا الطراز، ولعل هذا ما دفع عالِم جمال ماركسيا كآرنست فيشر الى ان يقول بأن الخيال هو واقع بالغ التركيز، لأنه ليس معزولا عن الذاكرة، بل هو اعادة انتاج لها بدربة ومهارة وتحليق، وحين قرأت اسطورة ديدالوس وابنه ايكاروس شعرت بأن العصيان على الأبوية بدأ مبكرا في التجربة البشرية، فمن المعروف ان ديدالوس واسمه يعني المخترع او البنّاء الماهر بنى متاهة، ثم تورّط فيها لأن الملك ميثوس الذي أمره ببنائها غضب منه وأمر بأن يسجن مع ابنه ايكاروس فيها، تماما كما كان جزاء سنمّار، الذي بنى صرحا شاهقا واحتفظ لنفسه بالسرّ فعوقب بالقتل كي يدفن سرّه معه الى الأبد.
ولم يكن امام ديدالوس وابنه للخلاص من تلك المتاهة الا بمحاولة الطيران، وبالفعل ألصقا على اكتافهما ريشا بالشمع، لكن الاب اوصى ابنه ان لا يُحلّق عاليا ويقترب من الشمس لأنها ستذيب الشمع ويسقط مضرّجا بدمه، وحين حلّق الابن انتشى بالتجربة وتمرّد على وصيّة الأب فدفع الثمن ومات.
والمثير للتأمل في هذه الاسطورة انها بخلاف الاساطير الاغريقية الاخرى، التي يعاقب فيها الانسان من الالهة، اذا تمرّد او أعلن العصيان على تعاليمها المقدّسة، كما حدث لبروميثيوس مثلا، الذي سرق سرّ النار فحكم عليه بأن يبقى الى الابد عاري الصدر تنهش النسور قلبه، وكلّما تلاشى نَبَتَ مكانه قلب آخر كي يستمر العقاب.
ايكاروس تمرّد على أبيه وليس على الآلهة ولم يسلم من العقاب، ورغم ان سيجموند فرويد اسْتَلْهَم واستقى معظم معْجمه السايكولوجي من الادب والاساطير، كما في عقدة اوديب او الكترا، او جريمة قتل الأب كما عالجها ديستويفسكي، الا ان اسطورة ديدالوس وابنه تقف على النقيض من جريمة قتل الأب، لأنها تستهدف قتل الابن عقابا له على العصيان او البلوغ وبالتالي الفطام عن المواعظ الابوية، وهنا نشعر بغياب ما يمكن تسميته الاسطورة المُقارنة، فما حلّ بايكاروس حلّ ايضا بعباس بن فرناس، لكن الأول كان ضحية العصيان على الأب، اي على التاريخ بينما كان مِثال ابن عباس عصيانا على جاذبية الأرض اي على الطبيعة، وهناك محاولة عربية مبكرة نسبيا في الاسطورة المقارنة لسلامة موسى، قارن فيها بين استخدام كل من توفيق الحكيم وبرنارد شو لاسطورة بيجماليون، وانتهى الى نتائج جديرة بالتأمل، منها عصاميّة شو والاعتماد التام على الارادة البشرية مقابل لجوء الحكيم الى قوة خفية تعينه على استنطاق الجماد، وهذا ما اشرت اليه في مقالة سابقة عن استخدام شعراء العرب لأسطورة بنيلوب وعوليس واستخدام ريتسوس للاسطورة ذاتها، لكن على نحو خلاّق لأنه أقام وزنا لعنصر الزمن الذي أَغْفَلَهُ الشعراء العرب الذين عالجوا الاسطورة ذاتها وحاولوا عَصْرَنَتها او منحها بُعدا تاريخيا .
٭٭ ٭ ٭٭ ٭ ٭
اذا قبلنا تفسير مالينوفسكي لظهور المجتمع الأبوي على انقاض الأمومة، او ما يسمى المجتمع الامومي، فإن اكتشاف البرونز كان السبب لهذا التحوّل، لأنه افقد المرأة قدرتها السحرية على التحكّم بالاشياء، واستطاع الرجل ان يصنع اسلحة من هذا المعدن، تُغنيه عن الدور السري والسّحري للمرأة، لكن المسألة أبعد من ذلك، وتجليات الذكورية في التاريخ منذ ستة آلاف عام على الأٌقل تتجاوز الاحتكام الى عنصر واحد، سواء كان اقتصاديا او اجتماعيا او حتى ميثولوجيا. فالنساء ثُرنَ ذات يوم ضد الذكورة وتحوّلن الى محاربات محترفات، كما فعلت الامازونيات اللواتي كنّ يبتُرن الثدي الأيمن من صدورهن كي لا يعوقهن عن استخدام القوس! اضافة الى نساء لم تكن تنقصهن القوة والسّطوة ومنهن ملكات.
وقد تكون نوازع الانثروبولوجست مالينوفسكي الماركسية هي التي حددت مُقتربا ماديا واقتصاديا كاكتشاف البرونز، لكن هناك بالمقابل مقاربات أخرى تحشد القرائن من كل المجالات كي ترجح تفسيرا على آخر، سواء في ظاهرة المجتمع الأبوي او اي ظاهرة اخرى في التاريخ.
٭٭ ٭ ٭٭ ٭ ٭
جريمة قتل الابن وهي على الطرف المقابل مما سماه فرويد جريمة قتل الأب لم يمارسها ديدالوس في الاسطورة على نحو مباشر، وجعل الشمس وهي عنصر من الطبيعة وليس من التاريخ تنوب عنه في القصاص من الابن العاقّْ، الذي استغرقته نشوة التحليق عاليا بحيث نسي موعظة الأب، لهذا فهو قَتْل ناقص كان عليه ان ينتظر قرونا كي يكتمل ويصبح قتلا موازيا لقتل الأب، كما في الاخوة كروموزوف لديستويفسكي، التاريخ وليس الطبيعة او الاسطورة هو ما تولى انضاج جريمة قتل الابناء وتجلى ذلك في صراع التقليدي والاتباعي مع الحديث الذي هو أحد تجليات صراع الذاكرة مع الخيال، ولو اقتصرنا في هذا المقام على المثال الأدبي، نجد ان قتل الابناء مورس بسبق الاصرار والترصُّد مرات عديدة، ففي بدايات الشعر العربي الحديث عاقب ديدالوس الشعر العمودي شعراء الحداثة بكل ما استطاع، ففي مصر مثلا منع التقليديون وبالتحديد عباس العقاد شعراء الحداثة من المشاركة في مؤتمر بلودان الشهير، لأنهم وفق التعريف الاتباعي ليسوا شعراء، وهذا ايضا ما عوملت به قصيدة النثر، واذكر للمثال فقط ان الراحلة نازك الملائكة قدّمت في كتابها قضايا الشعر المعاصر نموذجا للماغوط من ديوانه «حزن في ضوء القمر» على انه نموذج لما يناقض الشعر، لأنه غير موزون ولا مُقفىّ، ومنذ عصيان ايكاروس على ابيه وتَحْليقه عاليا والقصاص مستمر لمن يُغرّدون خارج السرب او بعيدا عنه.
وما عاناه ويعانيه ايكاروس العربي عقابا على عقوقه للاتباعية والذاكرة الصارمة التي ترى المستقبل اعادة انتاج لها وفق شروطها بدأ بالنبذ والاقصاء والحرمان من الاعتراف وانتهى الى التّكفير والتّخوين.
اننا بعد كل تلك القرون من متاهة ديدالوس نعيش حقبة قتل الابناء، لهذا نحن بانتظار فرويد آخر من صلب هذه اللغة ومن صميم هذا التاريخ!
كاتب أردني
خيري منصور