رغم ما عاشَهُ المُثقَّف العربي من تهميش وإبعادٍ، من قِبَل السلطة، كما من طرف الأحزاب اليسارية، التي انْتَمَى إليها أغلب المثقفين، ليس باعتبارهم شُركاء في اتِّخاذ المواقف، أو في التَّوْجِيه الفكري، بل كانتماءٍ بالاسم، أو بالصِّفَة، فقط، فقد كان بين هؤلاء المثقفين، من انتقد تجارب هذه الأحزاب، واعتبرها انزاحَتْ، في كثير من مواقفها، وما صَدَر عنها من تصرُّفاتٍ، خصوصاً الأحزاب التي أصبحت السلطة في يدها، أو انتقلتْ من وضع الحزب، إلى وضع النِّظام السياسيّ الحاكم.
هؤلاء المثقفون، رغم قِلَّتِهِم، فهُم كانوا بمثابة الضوء الذي كشف، في وقت مبكر، عَطَب السلطة، ولو جاءت من «الثورة»، وكشفوا ان الثورة، حين تتحوَّل إلى شرطة وجيش وزعامة سياسية، ومؤسَّسات حاكمة، وتصبح السُّلَط جميعها في يَدِ «الزَّعيم» أو «القائِد»، أو هو من يَتَّخِذ القرار، ويَحْسِم الموقف، بغض النَّظر عن طبيعة الفكر الذي جاء منه، تتحوَّل إلى سِجْن كبير، وتأكُل أبناءَها تِباعاً، تارةً بدعوى الخيانة، وتارةً بدعوى التشويش على مسار الثورة والتحريض عليها، عن عَمْد وسَبْق إصرارٍ، وزعزعة اعتقاد وإيمان الناس بها.
عدد من هؤلاء سُجِنُوا، ومنهم من ترك بلاده وهاجر إلى أوروبا أو أمريكا، ومن بقي في بلده، وجد نفسَه معزولاً، ومُحاصراً، وما يكتبُه أو يقوله لا قيمةَ له، ما دام لا يُسْمَح له بقول ما يراه، أو ما يَصِلُ إليه من نتائج وحقائق.
نفس ما نجده في الدِّين، الذي هو أيضاً فكر يفرض الرأي الواحد، ويفرض العقيدة الواحدة، ولا يسمح بالتَّنَوُّع وبالاختلاف، أو بالنقد، الذي يعتبره مُروقاً وكُفْراً. نفس البنية التي يصدر عنها الدِّين، في فهمه العام، تصدر عنها السلطة، وهي نفس البنية التي صدرتْ عنها «الثورات الاشتراكية» التي حدثت في العالم العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. والضحية، في الحالتيْن، هو المثقف الحُرّ، الذي اختار أن يكون خارج الدِّين، كما اختار أن يكون خارج «الثورة»، معتبراً وضعه كرجل علم ومعرفة، هو ما يمكن أن يسمح له بمراقبة ما يجري، وأن يكون في مَنْأًى عن كل انتماء، ربما، يكون عائقاً، في طبيعة رؤيته، وما قد يضع يَدَه عليه من معطياتً وحقائق، كما قد تتنافى مع الدِّين، قد تتنافى مع «الثورة»، حينما يصيرا، معاً، عَصاً في عجلة العربة، أو عائقاً في وجه التقدُّم والانطلاق.
المثقف، اليوم، ليس في حاجة للدِّين، ولا في حاجة للسلطة، ولا للحزب، فهو، فقط، في حاجةٍ لفكره ولعقله وخياله، لانه حين ينتمي لهذا الطَّرَف أو ذاك، فهو قد يصير عُرْضَةً للقمع والتَّهميش، ولكل أشكال المُضايقات، التي، غالباً، ما تطال وظيفتَه وعيْشَه، سعياً لإهانته وإخضاعه، أو تطويعه، بالأحرى. فحين يقول المثقف إنه خارج كل انتماء، فهو يقصد انه ينتصر لحرية الفكر والمعرفة، ولحرية الرأي والنقد، والجهر بالحقيقة، لأن كل انتماء، هو قَيْد في عنق هذا المثقف، ولِجام، لا يسمح لِلِسانه بالكلام، وحتَّى حين يُسَمَح له بالكلام، فهو يكون كلاماً بِجُرُعاتٍ، وليس كلاماً «على عواهنه»، كما تتصوَّره هذه السُّلَط، التي هي، في جوهرها، وفي معناها العام، سلطة واحدة، صادرة عن نفس البنية، ومحكومة بها، وأعني بها: الدين، و«السلطة»، والحزب.
٭ شاعر مغربي
صلاح بوسريف