عن أهمية الانسحاب في التوقيت المناسب!

خميس, 2024-02-29 11:54

يؤلمني حقا ما أتابعه هذه الأيام مما ينشر من أخبار ذات صلة بثلاث شخصيات وطنية لها تاريخها النضالي والسياسي المُشَرف، ويمكن القول إنها قدمت خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة ما لم يقدمه غيرها.
يؤلمني حقا أن الرئيس أحمد داداه والذي التف حوله في فترة من الفترات كل الطيف السياسي المعارض لم يعد اليوم قادرا على السيطرة على ما تبقى من بقايا حزب التكتل، وهو الحزب الذي عجز خلال الانتخابات الأخيرة عن الحصول على مقعد واحد في البرلمان الموريتاني.
لقد طالعتُ اليوم بيانا موقعا من طرف لائحة طويلة من أعضاء المكتب التنفيذي للتكتل ينذر بتشظي ما تبقى من بقايا حزب التكتل.
ومنذ أيام، وبعد مرور فترة طويلة على غياب أي خبر عن حزب التحالف الشعبي التقدمي، والذي لم يحصل هو بدوره على مقعد واحد في البرلمان خلال الانتخابات الأخيرة، أقول منذ أيام طالعتُ خبرا عن استقالة رئيس المجلس الوطني للحزب، وهو من آخر القيادات "التحالفية" الكبيرة التي ظلت صامدة في الحزب، وطالعتُ كذلك خبرا آخر عن مبادرة أطلقها الرئيس مسعود، وأظنه لم يطلقها إلا للفت الانتباه إليه بعد طول غياب، وكأنه أراد أن يقول من خلال تلك المبادرة "أنا موجود"، والمؤسف في الأمر أن المبادرة تضمنت دعوة للاعتداء على مادة محصنة في الدستور!!
وتابعتُ أيضا في الأيام الأخيرة قضية شغلت الرأي العام الوطني، وتتعلق بشكوى تقدم بها رئيس حزب اتحاد قوي التقدم الدكتور محمد مولود ضد النائب بيرام أعبيد، وللتذكير فإن هذا الحزب لم يحصل هو أيضا على مقعد واحد في البرلمان خلال الانتخابات الأخيرة.
هذه هي الأخبار التي أصبحت تنشر اليوم ـ وللأسف الشديد ـ عن ثلاثة أحزاب كانت تعد ـ وإلى وقت قريب ـ من أكبر أحزاب المعارضة الموريتانية، وهي أحزاب عجزت في مجموعها أن تحصل على مقعد واحد في البرلمان الموريتاني أو عمدة في بلدية ريفية..
وهذه هي الأخبار التي أصبحت تنشر اليوم ـ وللأسف الشديد ـ عن أبرز ثلاثة رموز من رموز المعارضة الموريتانية خلال العقود الأخيرة..
ألم يكن الأجدر بهؤلاء القادة أن ينسحبوا في التوقيت المناسب من قيادة أحزابهم، وينشغلوا في مجالات أخرى تليق بهم، ويخدمون من خلالها وطنهم؟
ألم يكن الأجدر بهؤلاء القادة، والذين كانوا يطالبون الأنظمة الحاكمة بالديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة، أن يمارسوا هم التناوب في أحزابهم، وأن لا يتشبثوا برئاسة تلك الأحزاب رغم الانسحابات الواسعة التي عرفتها تلك الأحزاب، وكأنهم لا يريدون أن يورثوا لمن خلفهم أحزابا قابلة للبقاء والاستمرار؟
أليس من المؤلم حقا أن يصبح الزعيم أحمد داداه غير قادر اليوم على السيطرة على ما تبقى من بقايا التكتل، وهو الذي كان يقود أكبر حزب معارض ضم في فترة من فترات ألقه السياسي كل قادة المعارضة الموريتانية الحاليين؟
أليس من المؤلم حقا أن يصبح الزعيم مسعود ولد بلخير الذي كان إذا تحدث أو تحرك شغل الرأي العام لأيام وأسابيع، غير قادر اليوم على أن يلفت انتباه الرأي العام إلا بمبادرة يدعو فيها إلى انتهاك الدستور الموريتاني؟
أليس من المؤلم حقا أن يصبح الزعيم محمد مولود رائد الحوارات السياسية بين السلطة والمعارضة وبين المعارضة والمعارضة، غير قادر اليوم على حل مشكلة مع معارض آخر بالحوار، مما جعله يضطر إلى اللجوء إلى القضاء في سابقة تعد هي الأولى من نوعها؟
لقد قلتها منذ سنوات وأكررها الآن، وبعد فوات الأوان، لقد كان من الأنسب للرئيس أحمد داده أن ينسحب بعد رئاسيات 2007 من العمل السياسي الحزبي، وذلك بعد أن منحه نصف الشعب الموريتاني أصواته، أن ينسحب من العمل السياسي الحزبي بشكل متدرج وهو مرفوع الرأس، وأن يتفرغ بعد ذلك لإطلاق مؤسسة باسمه لتطوير الديمقراطية في موريتانيا تبتعد عن التجاذبات السياسية الآنية، وعن التخندقات والاصطفافات الآنية، وعن الصراعات المعهودة بين المعارضة والموالاة، وتهتم فقط بالأمور الفنية لتنمية وتطوير الديمقراطية الموريتانية.
ولقد قلتها منذ سنوات، وأكررها الآن وبعد فوات الأوان، لقد كان من الأنسب للرئيس مسعود ولد بلخير أن ينسحب من العمل السياسي الحزبي بشكل متدرج وهو مرفوع الرأس بعد رئاسيات 2009، وأن ينشغل بإطلاق مؤسسة باسمه للتنمية الاجتماعية تعنى بالنضال التنموي ضد الاسترقاق ومخلفاته، وذلك من خلال التركيز على محاربة الجهل والفقر في الأوساط الأكثر هشاشة.
وقد كان من الأنسب للرئيس محمد مولود أن ينسحب من العمل السياسي الحزبي بعد رئاسيات 2019، وربما من قبل ذلك، وأن ينشغل بإطلاق مؤسسة للحوار السياسي والاجتماعي، تكون قادرة على تنظيم حوارات سياسية وربما اجتماعية في الأوقات التي يكون فيها البلد بحاجة لتلك الحوارات، والبلد بحاجة دائما إلى تلك الحوارات.
إننا في موريتانيا بحاجة إلى شخصيات وطنية ومرجعية يقدرها الجميع، تأخذ نفس المسافة من الجميع، وهذه الشخصيات لم تعد اليوم موجودة بسبب الاصطفافات والتخندقات والصراعات السياسية الآنية، وكان بإمكان الرئيس أحمد داداه أن يكون شخصية مرجعية في مجال الدفاع عن الديمقراطية وتطويرها إن هو انسحب من العمل الحزبي في الوقت المناسب وأطلق مؤسسة باسمه للدفاع عن الديمقراطية يبتعد بها عن ثنائية المعارضة والموالاة و تركز على الجوانب الفنية والتقنية في التنمية الديمقراطية، وكان بإمكان الرئيس مسعود أن يكون شخصية مرجعية في النضال التنموي ضد مخلفات الاسترقاق، إن هو انسحب من العمل الحزبي في الوقت المناسب، وأطلق مؤسسة باسمه للتنمية الاجتماعية، وكان بإمكان الرئيس محمد مولود أن يكون شخصية مرجعية في المساعي الحميدة والحوارات السياسية، إن هو انسحب من العمل الحزبي في الوقت المناسب وأطلق مؤسسة للحوار السياسي.
للأسف لم يحدث أي شيء من ذلك، ولذا فلم تحظ موريتانيا بشخصيات مرجعية قادرة على خدمتها في مجالات أخرى لا تقل أهمية عن المجال السياسي بمفهومه الضيق، ولم يحظ هؤلاء القادة الثلاثة بتقاعد سياسي مشرف يتناسب مع تاريخهم السياسي المشرف.
بعدم انسحاب هؤلاء القادة الثلاثة من العمل الحزبي في الوقت المناسب، خسروا هم، وخسرت معهم موريتانيا، وهذا مما يجب قوله الآن، حتى وإن كان يؤلمني قوله في مثل هذا الوقت بالذات,
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
[email protected]