مؤخرا، أرسلت لي كاتبة جديدة، رواية أولى لها، مكتوبة باللغة المحكية لبلدها بالكامل، أي أن السرد والحوار بين الشخوص المختلفين، كله بالأسلوب نفسه، يتبع تلك اللغة المحلية بحيث يبدو صعبا أن نعرف، أين السرد وأين الحوار، في كثير من المقاطع.
حقيقة اجتهدت كثيرا حتى استطعت قراءة عدة أجزاء من تلك الرواية، وربما استغرقت وقتا أطول من اللازم، لأنجو من فخ صفحة وأسقط في فخ صفحة أخرى، وبدا الأمر برمته صيدا صعبا، في مياه تبدو بعيدة، قد تهب الصيد في النهاية، ولكن بكثير من المشقة، والسخط والتبرم.
الفكرة نظريا تبدو مسالمة للغاية وأخلاقية أيضا. أن نكتب للناس في أي بلد عربي بلغتهم المحكية التي يهضمونها ويستخدمونها بشكل تلقائي، خارج صفوف الدراسة والخطب الرسمية. أكتب أنا بلغة بلدي وغيري من مصروالعراق والخليج، وكل الدول يكتبون بلغاتهم، بلا تكلف ولا مطالعة للقواميس، وخوف وارتباك من شراك النحو والصرف، وقواعد اللغة العربية إجمالا، فكما هو معروف تبدو اللغة العربية، رغم أنها لغة واحدة لجميع العرب، إلا أنها ليست لغة محكية واحدة، بل عشرات اللغات. وما لم يكن العربي الغريب عن بلد عربي آخر، ذا دراية بلغة البلد التي يزورها، فقطعا يضيع كما يضيع في أي بلد أجنبي، أو يلجأ لاستخدام لغة وسيطة، كما هو معروف.
إذن نظريا، الفكرة جيدة، ولكن عمليا، تبدو الفكرة سيئة للغاية، وقد تبدو في نظر الكثيرين لا فكرة على الإطلاق، فالقراءة في كثير من تعريفاتها، تحتفي بالمتعة، أي أن القارئ، يحس بالنشوة أثناء قراءته للعمل الأدبي، خاصة السردي منه، لأن الشعر في أصله نفحات جمالية لا ينبغي أن تكون غير ذلك، وحتى الشعر العامي، لأي بلد من البلاد العربية، فيه صور رائعة وفذة، وجماليات كثيرة، اكتسبها من التطور المستمر، وكنت في فترة ما أتابع الشعر النبطي، أو الشعبي لمنطقة الخليج، وعثرت على تلك الجماليات من ناحية الوصف والتشبيهات والاستعارات أيضا. العمل السردي أخذ من الشعر بعض النواحي بلا شك، وازدهى بنواح أخرى خاصة به، وإذا ما تغاضينا عن خصائص السرد وأخرجناه في ثوب آخر ليس على قياسه، يظهر ذلك الخلل الذي أشرت إليه، وتلك الصعوبة الجمة التي تقف عائقا بين العمل ومتلقيه.
كذلك، العمل المكتوب باللغة المحكية لبلد ما، لا يحقق انتشارا جيدا، إذا ما طرح للتداول في كل البلاد العربية، وقد يتذوقه أهل البلد التي كتب بلغتها فقط، وجزء بسيط من آخرين، يعرفون تلك اللغة، وبالتالي، نحرم ذلك العمل الذي بذلنا فيه مجهودا كبيرا من فرصة نشوة أو نجاح ما كان سيحققها إذا ما ترك عربيا خالصا.
لقد توصلت بالتأكيد، إلى استحالة إيجاد تصالح بين السرد واللغات المحكية للشعوب المختلفة، وذلك للأسباب التي ذكرتها وأسباب أخرى، انغلاق اللغة الشعبية وعدم سماحها لأي مفردة غريبة أن تدخل في وسطها.
بالنسبة للحوار بين شخصيات النص الروائي، فقد استخدم كثيرا وما يزال يستخدم إلى الآن في نصوص كثيرة تصدر. الروائي، يعين ساردا للنص، يصف ويحمل الجماليات على كتفه، يوزعها، وحين يأتي دور الحوار بين شخوص العمل، تدخل اللغة المحكية، ويستمر تداولها حتى ينتهي الحوار ويستلم الراوي مهمته.
كرأي شخصي، أنا أيضا لم أتعاطف مع النصوص المكتوبة بهذه الطريقة، أو بالأصح قد أكون أحببت سردها، وتوعكت قراءتي حين دخلت متاهة الحوار المحلي ولم أفهم شيئا. حدث لي ذلك مرات كثيرة، حين كنت أقرأ رواية عراقية ممتعة وسلسة، الراوي يصف المكان، يصف الحب، يصف الجسد، يتوغل في السحر والخرافة، وأشياء حلمية، ثم فجأة ينشأ حوار عراقي صرف، يستغرق صفحات طويلة، ويبدو أنه يكمل السرد، لكني لم أفهم والنتيجة هي أنني خسرت رواية ممتعة، حين بدأت أقلبها وأكتشف أن معظمها حوار بتلك الطريقة. وما انطبق على تلك الرواية العراقية، ينطبق على روايات أخرى من السودانولبنان والمغرب العربي، حيث اللغات المحكية هناك، لن تجامل مشرقيا مثلي، وتمنحه المعاني بسهولة. وبالنسبة للذين قرأوا رواية مثل عرس الزين، للطيب صالح مثلا، قد يحتاجون لمن يفسر لهم تلك الحوارات التي داخل الرواية، والتي لحسن الحظ قصيرة، وغير مسيطرة، فقد كان الطيب يحتفي بالسرد أكثر من الحوارات في معظم ما كتبه.
هناك شيء آخر، وهو التطور التكنولوجي الذي سمح لكل البلاد في الدنيا بأن تبث محطات فضائية، تتحدث بلغتها، وتروي تاريخها وموروثها وثقافتها الخاصة، وبالتالي زالت بعض العزلة التي كانت تسود الدنيا، ولا تسمح لأي مكان بأن يوجد خارج جغرافيته الخاصة.
السؤال، هل أدت تلك القنوات المحلية المفروضة على الفضاء مهمتها جيدا، بحيث نعثر على قارئ في الصومال، يقرأ رواية تونسية مكتوبة باللهجة المحلية التونسية، ويضحك في مواضع الضحك ويبكي في مواضع البكاء ويسجل انطباعاته أيضا؟
لا أعتقد ذلك، لسبب بسيط، هو خلو معظم تلك القنوات من وسائل الجذب التي تتحدث مع الآخر، وتجره من عينيه وعقله ليتابعها ويستوعبها. إنها في مجملها، قنوات خاصة لبلاد ما، تبث لأهل تلك البلاد أنفسهم ما يعرفونه ويهضمونه منذ أن ولدوا ونشأوا. وشخصيا لاحظت في حواراتي مع كثير من المغتربين عن بلادهم، كيف أنهم يتعلقون بتلفزيونات بلدانهم ويفضلونها على غيرها.
لنكتب إذن بالعربية الواسعة التي يقرأ عبدي، وفارح في الصومال، رغم وجود عشرات اللغات المحكية في بلاده، ويتقن هو ما تخص عشيرته، وفي الوقت نفسه يقرأها أمير في السودان، من دون أي تلعثم في الذهن أو كآبة تسيطر عليه، لعجزه عن الاستمرار في قراءة نص ممتع.
كاتب سوداني