ونحن نراود زمام مبادرة الفكر، نحتاج أحيانا إلى أن نسوق للعقل احتفال الرّوح الكائنة بين شعرية التأمّل والعقلانية القائدة إلى فرح المعنى، وفي ذلك تكمن غبطة الفكر وشفافية التّفكير السّائل من ماء القلب.
إنّ قراءة مالك بن نبي، فكرا ومسارا بحثيا لا يمكن أن تصير إلى العملياتيه ما لم نرصد في معلم حياته احداثيات الرّوح القابضة على «شعلة قنديل» والصّائرة في مهبّ «التيه» إلى مقام «الرّشاد».
بداية لا بدّ ان أشير إلى أنّ العنوان جاء بصيغة المضارع، لأنّني أؤمن أنّ الحالة الماضوية يشملها السكون، فإقران القرآن الكريم القصّة بالعبرة، يُفهم منه استمرار بعض القصّة في التاريخ، وهو ما يشكل «الحركة في التاريخ»، أو ما يمكن أن يكون رافدا للرّاهن، وركون بعضها (القصّة) إلى مجرّد الحدث الذي يشمله التاريخ، وذاك مجمل الماضي الذي يجمع الوقائع والأحداث التي لا يمكن للعقل البشري أن يلم بها جميعها، وبالتالي يكون توظيف صيغة المضارع في العنوان للدّلالة على استعادة الحدث البنّابي، واستمرار بعض فكره في الوعي، لتشمله حركة التاريخ في سياقها الفاعل الذي يشكل الرّاهن ويتّجه صوب المستقبل.
عناصر الثّبات وخصوصيات الانطلاق:
إنّ مالك بن نبي إنسان وُجد ضمن نظام اجتماعي له خصوصيته التاريخية التي صاغت حياة المفكر بن نبي، وأطّرت رؤيته للكون والحياة والإنسان، لكن في خضم هذا لا يجب أن نغفل أنّه فتح عينيه ضمن ظرف هيمن فيه المستعمر على مصير ومقدّرات مجتمعه، وصادر إرادته لردح من الزمن، وهو ما ساهم في تشبث بن نبي المفكر والإنسان بأطر بيئته الأصيلة، ففي فيلم وثائقي أنجزته إحدى الفضائيات معنونا «بن نبي المجهول بين قومه»، تذكر ابنته إيمان أن أكثر دعاء أبيها كان «اللهم آتنا الصّبر والتقوى»، وهو ما يفسّر مقاومة بن نبي لكل تقاعس خلال اشتغاله على المسار المعقّد لتخلف الأمة، فالصّبر ميزان الرؤية التي تنفذ إلى أعماق الظواهر، حيث حصر العناصر وتحليلها وقراءة نتائجها، كما أنّ التقوى كفيلة بأن تقاوم مظاهر الزّيف في التّرائي الأجوف للذات وهي تواجه المظاهر الخارجية الأكثر دعة وركونا إلى طمأنينة الترف وشيئيته، في إغراءه المميت للفكرة والعقل.
في نفس السّياق، بعد استبصاره لعناصر الثبات على المسار، كما توضّح من خلال الصّبر والتّقوى، نجده يعمّق الرؤية للمبدأ من خلال إيمانه الموضوعي بميكانيزمات البحث الفكري، ولكن ليس على حساب مبادئه الفطرية التي تقضي بالأمل المطلق في القدرة الإلهية التي تخضع لها موازين التاريخ والعقل، ففي محاضرة حول الحضارة يقول: «مرّت الحرب العالمية الأولى، وقضت نهائيا على فكرة الجامعة الإسلامية..» ثم يستدرك قائلا: «..نهائيا في نظر المؤرخ، نحن لا نتكلم إلا في نطاق إنسانيتنا، لا نتكهن ولا نرجم بالغيب..» ثم يضيف: «..لأنني كمؤمن، أتكلم كلاما غير هذا الكلام، كمؤمن أؤمن بأن الله سبحانه سيهيّئ لهذه الأمّة الاسلامية ويحفظها من كل شيء، أمّا كرجل يبحث ويدرس القضايا، يجب عليّ أن أحلل القضايا كما أراها بقدر المخطئ والمصيب ككل إنسان».
يبيّن هذا الموقف الإيماني عمق اختلافه مع الرّؤية الخلدونية في تكوّن دورة الحضارة ــ رغم اعترافه بأستاذية ابن خلدون له في الفكر الحضاري ــ التي يراها ابن خلدون شبيهة بالدّورة العضوية للإنسان، طفولة كهولة هرم وموت، هذه الحتمية يختلف معها بن نبي بحتمية تاريخية أخرى، لكنّها ذات منزع إيماني، فهو يرى أنّ الإرادة الحضارية كفيلة بأن تدفع الإنسان إلى معاودة الكرّة، مسشفّا ذلك من خلال الآية الكريمة: «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، ولقد أطلق المفكر عماد الدّين خليل وصف «الحتمية التشاؤمية» على ما تبناه ابن خلدون في فكرة نشوء الحضارة وانهيارها.
يضيء أيضا هذا الموقف في حياة بن نبي الفكرية منطقة العتمة التي تقود كثيرا من المنبهرين بالآخر إلى تمثل عناصر تفكيره ورؤيته للحياة والكون والإنسان، وبالتالي تبنّي طروحاته التي لا تكشف إلا عن انسلاخ من هويّة الذات والالتحاق بهوية الموضوع، وهو ما يفسّر خروج المسلمين من مسار التاريخ في رشاده المتوائم مع المبادئ، وانقذافهم في مهبّ التّيه العالق بين فقدان الهويّة والبحث عن الذّات خارج الأطر الأصيلة.
ملامح الشخصية الفاضلة:
بين عناصر الثّبات وخصوصيات الانبثاق المتمثلة في الحفاظ على المبدأ، تتشكل ملامح الشّخصية الفاضلة، ليس بالمعيار الأخلاقي وحسب، ولكن أيضا بمعايير الحركة في التاريخ، أي الفعل المنتج للأثر، حيث نجد ابنته رحمة في حصّة من حصص «وقفات» لحمراوي حبيب شوقي، تكشف عن هذه البذور المنغرسة في وعيها، لكنّها المتمَثَلَة سلوكا في واقعها، تقول إنّها لما رحلت إلى أميريكا، ولمّا قرّرت العمل، راحت تفكر في ما يجعل مبادئها كمسلمة محقّقة على أرض الواقع، فمارست التعليم، وكانت توجّه تلاميذها أثناء حصص خاصّة في الواقع والمجتمع إلى مساعدة من لا يقدر على اجتياز الطريق مثلا، أو مساعدة المحتاج، وغير ذلك من التصرّفات التي تجعل السلوك الإسلامي واقعا وليس مثالا، وكانت تنبّه تلاميذها إلى أن ما يقومون به هو الإسلام بعينه، وهو ذاك قصد مالك بن نبي في مفاهيم الأفكار من حيث الصّحة والصلاحية.
وغير بعيد عن هذا تكشف إيمان بن نبي وهي تضحك في هدوء بعد أن ترتسم على ملامحها علامات الحنين إلى أبٍ، كان ينثر في تربة البنوّة والعالم معالم واقع تُشكل قواعده الصّرامة المنطقية التي يتطلبها العقل وبساطة السّلوك في توصيل جوهر الفكرة، تقول: «يوم السّبت(موعد ندوة مالك بن نبي) يضعون الكراسي في الغرفة الفارغة ويضع السبورة، الوالد الله يرحمه لا يتكلم دون سبورة، الوالد الله يرحمه منطقي يعبر (تضحك ضحكا خفيفا) بالمنطق ويشرح بالطباشير».
إن السبورة والطباشير تختزن معظم رؤية بن نبي لحزمه في توضيح رؤيته، التي لم تكن تتطلب سوى التركيز والفهم ثم المبادرة إلى الفعل الخلاق، تماما كما هي بساطة وسائله التوضيحية، والمَعْلم ذو الأهمية في هذا الموقف الذي تقدّمه ابنته إيمان وهي تضحك، يكشف عن تعلق الإبنة بما كان يقوم به والدها، وما زالت تحتفظ به وتسوقه من الذاكرة، كارتياح تربوي ليس الهدف منه مجرّد استدعائه، ولكن بعثه كعامل للبناء الحضاري المنشود، فالوعي يحتفظ بمثل هذه الشّذرات لأنّه استلهمها وتربّى عليها ووجد منطقية حياته في تطبيقها، ولهذا كانت الدّلالة في ضحك «إيمان بن نبي» عميقة، فهي تفسّر تعلقها بأبيها، حيث وهي تروي تَعَلّق أبيها بوسائله التوضيحية ضاحكة، يمثل هذا الضحك نوع من التهكم البريء ويكشف عمّا كان يسود تلك العلاقة من روح الدّعابة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يكشف عن مدى استيعابها للدّرس البنّابي، فهي تصدر في سلوكها عن ذاكرة حنينية تنطوي على المبدأ والقدوة وأدوات التفعيل.
هذا شيء من مالك بن نبي المجهول بين قومه والحاضر في مناهج بعض الجامعات الأمريكية حسب وثائقي الفضائية المذكورة سالفا.
٭كاتب جزائري
عبد الحفيظ بن جلولي