يرى الفيلسوف الفرنسي مايكل فوسل أن الصراع السياسي المحتدم راهناً في الغرب بين الاتجاه الليبرالي والاتجاه القومي المحافظ، يتمحور حول الجبهة المدافعة عن القيم والأخرى المتشبثة بالمبادئ. والفرق جوهري بين القيم والمبادئ، باعتبار أن الحركية الليبرالية الحديثة قامت على استبدال المعايير الخلقية والتقويمات الجوهرية بأدوات قانونية إجرائية وكونية. والقيم تحيل إلى التقليد الحضاري والموروث الديني، ومن ثم تداخلها مع محددات الهوية والوعي الثقافي، بينما تحيل المبادئ إلى النظم العملية والأحكام الصورية الشكلية التي لا مناص منها في مجتمعات متعددة قيمياً ومجتمعياً.
ومع أن النظام الليبرالي حكم في جل البلدان الغربية منذ القرن الثامن عشر، فإن الجبهة القيمية ظلت حية وفاعلةً في الحقل السياسي، منذ الحركة الرومانسية التي كرست الاهتمامَ بالعالم المعيش والشعور الجمعي، إلى التيارات القومية التي أعطت الأولوية لهوية الأمة على مقاييس العيش المشترك بالمفهوم القانوني الإجرائي.
لقد ظل تصور الأمة في التقليد الغربي متأرجحاً بين النظرة العضوية لها من حيث هي وحدة ثقافية تاريخية وشعورية طبيعية على السياسة أن تجسدها في مؤسسات عمومية تترجمها في الواقع، وبين النظرة القانونية التعاقدية التي ترى في الأمة كياناً توافقياً تحكمه مبادئ المواطنة المتساوية والإرادة المشتركة الحرة.
ومن المعروف أن هذه البلدان على اختلاف أنظمتها السياسية وتقاليدها القانونية دخلت في مسار العلمنة المجتمعية، الذي يعني أمرين أساسيين مترابطين هما: انحسار الدين في المجال العمومي بحيث لم يعد حاضراً في النظم القانونية والمدنية التي تقوم عليها مؤسسات الدولة، ونضوب منظومة القيم التقليدية التي كانت تحدد سابقاً معاييرَ السلوك الفردي والجماعي. وفي مثل هذه المجتمعات أصبح الصراع السياسي يتركز حول ضوابط ومتطلبات العدالة التوزيعية في أبعادها الحقوقية والمادية، ولم يعد للقيم دور أساسي في الحقل الأيديولوجي.
وهكذا تحولت الحركات اليمينية من خط الدفاع عن الخصوصية القومية إلى مبادئ حقوق الإنسان الكونية ومتطلبات الاندماج الواسع، سواء في الإطار الإقليمي (الاتحاد الأوروبي مثلا) أو في إطار العولمة المتنامية.
وفي ذلك المناخ، قال الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران كلمتَه الشهيرة: «إن القومية تعني الحرب»، واعتبر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون أن المجموعة الدولية أصبحت حقيقة ناسخة للقوميات والأمم.
ومع أن الكاتب الأميركي صمويل هانتغتون تحدث أوانها عن «صدام الحضارات» على أساس تعارض القيم، إلا أن هذه الرؤية بدت غريبة ونشازاً في عالم مندمج، وقلصت هذه السردية من بعد في المجال غير الغربي الذي ما تزال فيه الأنساق الدينية والعقدية حاضرة ومؤثرة. وحتى حروب الإرهاب التي ضربت قلبَ العالم الغربي، نُظر إليها في البداية من زاوية أمنية بحتة، باعتبارها عملية بوليسية لملاحقة مجرمين خارج القانون لا حرب قيم أو حضارات.
لقد تبدلت الصورة نوعياً في السنوات الأخيرة نتيجة لعوامل ثلاثة كبرى هي: واقع التعددية الثقافية الذي أصبح يطبع الدول الليبرالية الغربية مما أعاد طرحَ إشكال الهوية الحضارية والقومية للبلدان التي استقبلت هجراتٍ واسعة من أفريقيا جنوب الصحراء والعالم العربي، وبروز قوى دولية صاعدة تتبنى المرجعيةَ الحضارية والقيمية أفقاً للشرعية والتمدد كما هو حال روسيا والهند وتركيا، وانهيار الأيديولوجيات التاريخانية والتقدمية التي عوّضت في السابق الانتماءات القيمية والحضارية في الغرب الليبرالي.
ومن هنا ندرك طبيعة الشعبويات الجديدة في الغرب التي تتبنى بوضوح السردية القيمية والحضارية، بالعودة إلى مرجعية التقليد المسيحي والزمنية الحضارية السحيقة والهوية القومية العضوية.
عندما سئل السياسي القومي اليميني الراديكالي الفرنسي أريك زمور عن الهوية الفرنسية، قال إنها تتحدد وفق ثوابت عرقية وثقافية في مقدمتها النزعة الكاثوليكية، ونمط العيش الخصوصي المتوارث تاريخياً، والقيم الذكورية... معتبِراً -على غرار ساسة عديدين في عموم أوروبا- أن القارة تواجه خطرَ ما سماه «الاستبدال الكبير» الناجم عن الهجرات الخارجية.
وبطبيعة الأمر، يعاني الخطاب القيمي الجديد في الغرب من اختلالات كثيرة، باعتباره يتعارض مع جوهر الحداثة الذي يعني الانتقال من نظام الانتماءات الجوهرية الشمولية إلى نظام الحقوق والحريات الكونية كما تحدده اعتبارات العيش المشترك الحر والتضامني. بيد أن ليبرالية المبادئ تواجه مصاعبَ كثيرة ناجمة عن التصدع الاجتماعي المتنامي بين النخب المعولمة التي فقدت مشاعر الانتماء العضوي لمجموعات قومية مدنية خصوصية وبين الجمهور الواسع الذي يستخدم القاموس القيمي والحضاري أداةً للدفاع عن حقوقه ومصالحه باسم شعارات الهوية والسيادة.
صحيفة "الاتحاد"/ الاثنين 15 يوليو