أحمد شياخ
هناك رواية تقول إن الصينيين عندما يلعنون أحدا يقولون له: “أتمنى لك أن تعيش في زمن التحولات والتغيير”. ويبدو أن الولادة الجديدة لدول الساحل الافريقي جاءت في زمن التحولات والتغيير.
لقد أردنا البدء بهذه الرواية الصينية للتعبير عن مشاعر سكان بلدان الساحل وهم يرون هذا التحول العسير بين الماضي الاستعماري وما تبعه من استقلال صوري إلى حد كبير، وبين ميلاد جديد تشهد فيه بعض دول ساحل بروز قادة شبان جدد يرفعون شعارات السيادة الوطنية والتحرر من رواسب الاستعمار وشركاته وقواه التي سيطرت تقريبا على كل فترات الحكم في هذه الدول.
أردنا في هذه المقالة التركيز على دول الساحل الخمس الكبرى كنماذج يمكن الاستدلال بها حيث ثمة تنافس دولي عليها وبكل تأكيد روسيا جزء من الدول التي تلعب دورا مهما في هذا التنافس وهذه الدول هي: مالي، موريتانيا، بوركينا فاسو، النيجر وتشاد.
ثروات وثقل بشري
تحتل منطقة الساحل الافريقي مساحة شاسعة حيث تمتد من إريتريا والسودان على البحر الأحمر حتى موريتانيا المطلة على المحيط الأطلسي.
هذه المساحة الشاسعة وما تحتويه من الثروات الطبيعية الهائلة من غاز وذهب ويورانيوم وثروة سمكية كبيرة وثقل بشري مهم أكثريته من الشباب وإطلالة بعض دول المنطقة على أوروبا وما يطرحه ذلك من حساسية وتحد أمني فما يخص سؤال الهجرة غير الشرعية. أضف الى ذلك ضعف البنية السياسية لمعظم الأنظمة الحاكمة في المنطقة. كل هذا جعل من منطقة الساحل عرضة للتنافس الدولي ومسرحا من مسارح ممارسة لعبة النفوذ والقوة بين الدول الكبرى.
هنا تأتي أهمية استقراء العلاقة القديمة – الجديدة بين هذه الدول وروسيا الاتحادية حيث شهدت السنوات الأخيرة دفعة قوية لتلك العلاقة فازدادت زيارة الوفود الرسمية وتعاظم التعاون الاقتصادي والأمني بينهما وخرجت كثير من الحشود في عواصم بعض دول الساحل حاملة العلم الروسي وصور الرئيس فلاديمير بوتين كتعبير عن الترحيب بالقادم الجديد إلى المنطقة.
تبدو مالي التعبير الأبرز عن مدى جدية موسكو في تطوير علاقتها بدول الساحل خاصة وافريقيا عموما، حيث تسعى موسكو لإرساء دعائم لنظام قوي وتقديمه كنموذج يحتذى به. شهدت مالي في السنوات الأخيرة عدة تحولات سياسية وأمنية خطيرة كادت في بعض الأحيان أن تعصف بكيانها حيث كانت باماكو قاب قوسين من السقوط.
وفي 20 أغسطس / آب 2020 قاد ضابط شاب برتبة عقيد في الجيش يدعى آسيمي غويتا مع مجموعة من الضباط انقلابا عسكريا فأطاحوا بالرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا قبل أن يتولى الشاب بنفسه رئاسة البلاد رسميا في يونيو/ حزيران 2021 .
وبعد توليه الرئاسة حمل القائد الشاب والنخبة القادمة معه شعار استعادة الدولة الوطنية وبسط نفوذها على كامل أراضيها ومناهضة الوجود الغربي عموما والفرنسي خصوصا. وكان الخطاب يحمل سؤالا بسيطا هو: بعد ستين سنة من استقلال مالي وتواجد الشركات الاقتصادية الفرنسية المسيطرة على اقتصاد الدولة ماذا استفاد الشعب؟ وهو سؤال تبدو الإجابة عليه واضحة لدى عامة الناس فلا وجود للصحة ولا للتعليم، ومعدلات فقر مرتفعة وبطالة تنخر صفوف الشباب المالي. كل هذا جعل الماليين الداعم الأول للرئيس الشاب.
وكانت موسكو من الداعمين الأبرز حيث استفاد الجيش المالي من هذا التعاون بعد أن زودته روسيا بالعديد من المروحيات القتالية والأسلحة ما ساهم في استعادة الجيش للعديد من المناطق وبسط سيطرته عليها.
كما كانت مالي من دول التي استفادت من مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إذ أرسلت شحنات تقدر بين 25 إلى 50 ألف طن من الحبوب مجانا إلى بعض دول الافريقية من بينها مالي وبوركينا فاسو وجمهورية افريقيا الوسطى وإريتريا.
تبدو موريتانيا واحة الاستقرار في منطقة لمتشهد هدوءا أمنيا منذ سنوات فالبلاد المطلة على المحيط الأطلسي لم تشهد أي هجمات إرهابية. وتم تداول السلطة فيها سلميا حيث تسلم الرئيس الغزواني السلطة خلفا للرئيس محمد ولد عبد العزيز بعد الانتخابات الرئاسية عام 2019 .
تبدو علاقة نواكشوط وموسكو تنمو باطراد حيث زار الرئيس غزواني روسيا بعيد انتخابه بقليل حيث شارك في القمة الروسية الافريقية، كما أدى رئيس الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف زيارة رسمية إلى نواكشوط تعد الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، وزادت موسكو حصة موريتانيا من المنح الدراسية التي تقدمها للطلاب الافارقة .
علي المستوى الأمني تبدو نواكشوط حريصة على تنمية العلاقات مع موسكو حيث وقع وزير الدفاع الموريتاني مع نائب وزير الدفاع الروسي على مذكرة تفاهم على هامش مشاركته في مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي .
زاد الثقل الاستراتيجي لموريتانيا مع اكتشاف حقول الغاز التي ستجعلها من كبار مصدري الغاز في افريقيا وعامل استقرار، أسباب جعلت المنظومة الغربية تركز أكثر على نواكشوط فزاد التعاون العسكري بين الجيش الموريتاني وحلف شمال الأطلسي، ووقعت اتفاقية مكافحة الهجرة غير الشرعية بينها وبين الاتحاد الأوروبي. مع ذلك تريد موريتانيا علاقات متوازنة مع الجميع ما يجعلها مقبولة منهم على الأقل حتى الآن.
شهدت بوركينا فاسو كذلك تقلبات سياسية حادة خلال السنوات الأخيرة قبل أن يستقر الأمر للنقيب الشاب إبراهيم تراوري الذي يلقبه السكان بتوماس سانكارا الجديد لما يحمل من قوة في الخطاب وكاريزما ظاهرة وحضور قوي. بدأ الشاب مسيرة التحرر الثانية حيث تم طرد القوات الفرنسية من البلاد، وشهد التعاون مع موسكو قفزة نوعية فشارك تراوري في القمة الافريقية – الروسية الأخيرة وعقد على هامشها لقاء ثنائي بين تراوري وبوتين واتفق الطرفان على تعميق الشراكة على المستوى الأمني والطاقة حيث تعهدت روسيا ببناء محطة نووية في بوركينا فاسو لتغطية النقص الحاد من الكهرباء الذي تعاني منه البلاد .
قاد رجل النيجر القوي الجنرال عبد رحمن تشياني انقلابا عسكريا أطاح بالرئيس محمد بازوم وبدأ تشياني صياغة خطاب وطني تحرري افريقي وطّد علاقات بلاده مع الحكام الجدد في كل من مالي وبوركينا فاسو. وقع القادة الثلاثة على تحالف عسكري جديد يجمعهم لمحاربة الإرهاب، وزودت موسكو حكام نيامي بمستشارين عسكريين وعتاد عسكري وهو ما قالت موسكو إنه سيعزز أمن وسلامة أراضي النيجر .
اعتبرت تشاد، على مدار سنوات، معقلا مهما من معاقل النفوذ الغربي وخصوصا الفرنسي منه حيث تمتلك فرنسا قواعد عسكرية فيها ولها نفوذ تاريخي على النخبة الحاكمة هناك. ومع تولي محمد إدريس ديبي الابن مقاليد الحكم في البلاد بعد مقتل والده في ظروف غامضة زار ديبي روسيا مرتين كانت آخرها في كانون الثاني/ يناير الماضي. وزادت روسيا المنح التعليمية المقدمة لطلاب تشاديين للدراسة في روسيا، لكن مع ذلك تبدو نجامينا أكثر حرصا على استمرار النفوذ الفرنسي وخاصة في ظل حالة عدم اليقين التي تسود المستقبل السياسي للدولة مع توجهها لانتخابات رئاسية الشهر المقبل، سيشارك فيها الرئيس الحالي لكن إلى حد الآن يبدو أن حكم ديبي الابن معرض لهزات من داخل المؤسسة العسكرية.
هكذا أصبحت روسيا أمام فرصة تاريخية وإنْ جاءت في ظروف لا تحبها موسكو وهي تخوض معركة ضارية مع الغرب في أوكرانيا وفي جبهات مختلفة. لكن يبدو أن الكرملين مصر على المضي قدما في توسيع دائرة النفوذ والمصالح مع القادة الافارقة الجدد مستفيدا من الترحيب الشعبي والعلاقات القديمة إذ دعم الاتحاد السوفياتي السابق حركات التحرر الافريقية ضد المستعمرين الغربيين، كما أن أجيالا من الافارقة تم تكوينهم داخل روسيا واستفادت دولهم من خبراتهم بعد عودتهم .مع ذلك تبرز تحديات قد تعيق هذا التعاون :
أولا: حالة عدم اليقين في قادة الأنظمة الحاكمة الجديدة حيث أنهم شبان يمتلكون الإرادة للتغير لكنهم يواجهون دولة عميقة تم تكوينها غربيا وهي ما زالت مؤثرة وقادرة على قلب الموازين .
ثانيا: انشغال موسكو بالأزمة الاوكرانية وتحديات الجيوسياسية الضاغطة عليها مع اقتراب الناتو من حدودها بعد ضم فلندا. كل هذا يحمل ضغطا إضافيا على صانع القرار الروسي حيث يبدو مضطرا الى تقديم أولويات الأمن القومي على ملفات أخرى منها الحضور في القارة الافريقية.
أخيرا تحتاج روسيا إلى الاستفادة من التجربة الغربية وخصوصا الفرنسية في الساحل الافريقي حيث انتهى بها المطاف مطرودة، ولذلك تبدو معادلة رابح – رابح حقيقية كفيلة بتحقيق ذلك على المستوى الاقتصادي والتنويع أو المزج بين القوة الصلبة والقوة لناعمه على المستوى التعاون العسكري والأمني. الحضور الأمني وحده غير كاف، وقد يسبب نتائج عكسية بل يحتاج إلى قوة موازية له من مثقفين ومفكرين وأطباء ومهندسين قادرين على تحقيق التقدم والتطوير داخل دول الساحل الافريقي.