في سلسلة المقالات، الصادرة تحت العنوان "منتجو التاريخ الموريتاني" و التي تمنشرها علي الموقعين الموريتانين "آدرار إينفو" و"إكريدم"، الناطقين باللغة الفرنسية،تقدم المؤلفة ماريئلا فيلازانت سرفلو (من مركز جاك برك بالرباط)، حصيلة ذاتإسهامات مختلفة "لتاريخ شامل" مستقبلي لموريتانيا، يستنطق الإمكانيات الدلالية والابستمولوجية لـ"تاريخ وطني" يربط ألفيات الماضي للتراب الموريتاني الحالي بحدثو مشروع الدولة الأمة المستقلة منذ 1960.
وتظهر جدارة هذه السلسلة، من بين أمور أخري، أنها أثارت السؤال الجوهري لأهميةتاريخ وطني يتوسط مجموعة من التواريخ المحلية و الجهوية و القبلية و العرقية والأحادية التي تغطي فضاء اجتماعيا وتاريخيا (اترارزه، الألماميات، اتحاد إدوعيش...) والدينية (اعتناق الإسلام، تبني المذهب المالكي، الزوايا التيجانية والقادريةوالفضيلية...) والمكانية (كومبي صالح، شنقيط، ولاته، كهيدي، تشيت...) والزمانية(ملحمة المرابطين، حرب شرببه، ظهور الإمارات البيظانية، الفترة الاستعمارية،الاستقلال، حرب الصحراء، الأنظمة العسكرية، الفترة الديمقراطية)...
واحتراما للبعد النقدي الذي اتخذه الكاتب اتجاه العمل الذي يهيمن عليه علم التاريخ(الإسلامي أو الاستعماري) ومقاربة سجلات (المختار ولد حامدون وموسوعة حياةموريتانيا) والتشكيلات الأنسابية والحدود الجغرافية (تاريخ تيشيت أو ولاته...) أوالنظرة الاجتماعية (عبد الودود ولد الشيخ، بيير بونت، يتساءل حديثنا عن إمكانيةاتجاه أو خيط رئيسي لمصير هذه الأمة ذات المكونات المتشعبة.
فالعرض المبعثر لهذا الأرشيف، بغض النظر عن تفاصيله و الظروف الزمنية التي وقعفيها، يستدعي جملة من الملاحظات.
ما الذي ينبغي لنا أن نستخلصه من أنقاض تلك الإمارات المفقودة، من إمارات اختفتو إمبراطوريات تفجرت وطبول خفتت و مشايخ انهارت حتى أصبحت مجرد عشائرأسرية و مملكات صارت عواصمها ملاذا للرياح والتأمل...؟
بإعلانها السيادة على فضاء التراب الوطني، ألا تقوم الدولة بفرض ملكية "شرعية" لذاكرة كل الكيانات التي سبقتها ؟
ألا يوجد في التراث المادي المتمثل في حدث الاستقلال، تراث تاريخي، تجب مطالبتهوترقيته في وجه المطالبات الخارجية والشرعيات المحلية؟
ألا يمثل بناء تاريخ وطني إجابة لحاجة أساسية للتعريف بالذات، للحق الشرعي فيذاكرة وطنية، لاحترام التراث المتراكم وللشعور بالإنصاف اتجاه المؤسسين، كرموزللماضي، ما قبل الاستعمار و كأبطال للمقاومة وكصناع للاستقلال؟
إننا نحس - من وقت لآخر– وكذلك في المناسبات الوطنية الهامة وخلال التظاهراتالمخلدة للتراث الثقافي (مهرجان موسيقى الرحل، مهرجان الثقافة السونينكيةوالبولارية...) وفي لحظات التعبئة للشأن الوطني، بالحاجة إلي هذا الترسيخالتاريخي.
إن حديثنا عن الشأن الوطني، يضعنا في صميم الميدان الفكري للخطاب و التمثيل. ولا بد هنا، من الفصل بين ما يتعلق بتأسيس الدولة والدفاع عنها واستمرارها ووحدتهاوأصالتها.
وتمثل في هذا المضمار، فصول مقاومة الاحتلال الأجنبي ونيل الاستقلال قيمة رمزيةحاسمة، يشكل تاريخ الأنظمة السياسية، المدنية والعسكرية وحرب الصحراء، حلقاتتقربنا من الحاضر.
إن غياب دولة مركزية في السابق، على الحيز الترابي الذي أطلق عليه إكزافييكبولاني اسم "موريتانيا الغربية" سنة 1889، غير قادر على جهل تكتل تلك الكياناتالمنهارة الضاربة في القدم (إمبراطورية غانا ، المرابطون، التكرور، مملكة بني غنية ،البافور...)، والإرهاصات العسيرة لدول محدودة (ممالك الوالو، كاجور، سينسالوم،جولوف والإمارات البيظانية...) والمشاريع الاتحادية و المتشابكة في جميع الاتجاهاتبين الرحل و شبه الرحل و الحضر في الواحات أوفي منطقة النهر
هل ساهمت كل من ظاهرة التجارة العابرة للصحراء العريقة (سباخ كدية اجل بتيرسحتى أطراف انياكارا) ومرحلة المرافئ التجارية (أركين، وادان، بودور) والسيطرةالاستعمارية وعقليتها اليعقوبية في ترسيخ الحقيقة السياسية الجديدة؟
وفي هذا السياق، يبدو جليا أن كل فئة من المكونات الثقافية للفضاء الموريتاني،(البيظان، البولار، الولوف، والسوننكي...) قد تجاوزت بكثير الحدود الجغرافيةللأرجوحة الاستعمارية صوب الدول المجاورة (مالي، الصحراء الغربية، المغرب،السنغال... وأبعد من ذلك) ورغم ذلك لم تستطع كل منها، أن تشكل، حسب العارفينللتاريخ، وحدة سياسية أو مشروع دولة قومية محصورة في طابعها العرقي.
إن تواجد هذه الكيانات الاجتماعية تعدي حدود التراب الموريتاني، كما تم تجاوزخصوصيات هذه المجموعات من قبل مشروع الدولة متعددة الأعراق، الذي بدتعاصمته، في نشأتها بين الكثبان الرملية والمحيط، كوحش يبتلع كل ما سبقه.
فتخلت المدن القديمة- شيئا فشيئا – عن ماضيها لصالح جيل من المدن الجديدة، تمبنائها من نقطة الصفر:انواذيبو، ازويرات، بتلميت، كيفه، ألاك ....
إن تعريف ملامح تاريخ وطني، يعبر عن حقيقة جديدة على كل الأصعدة، يتطلبتحديد خط فاصل، يفرق بين ما هو وطني و ما سواه مما له صلة بسجلات موازيةسابقة أو معادية لوجود الدولة.
وفضلا عن قراءة زمنية سياسية بحتة، فإنه من الواجب على هذا التاريخ أن يتضمنالاستكمالات الوطنية في مختلف الميادين (الفنون، الثقافة، الهندسة المعمارية...) وكذامعاناة الشعب طيلة فترة "السيبة" وعصور العبودية والهيمنة تحت "الركاب والمحراثوالكتاب"، عنوان كتاب المؤلف دي شاسي.
فلن يكون باستطاعتنا التعبير عن مدى أهمية المادة التاريخية المجمعة، في ظروفغالبا ما يكون تجميعها صعبا للغاية، لهؤلاء المثقفون والعلماء و المشايخ الدينية وروادالاستعمار والاستكشافيون والمغامرون والباحثون المعاصرون وهواة التاريخ أوالمولعون به، الذين أنقذوا من النسيان - هنا وهناك - حلقات هامة و أحداث تأسيسيةوتواريخ لا يمكن تجنبها وأسماء وأماكن ستظل و إلى الأبد، سبيل أمة ذات المنابعالمتعددة و التراث الثقافي المتشعب.
فالعامل الصحراوي للتحلل أو الدفن المطلقين، سيبقي رغم ذلك، ضاربا في القدم.
إن نظرية و توجه هذه الإسهامات تتعلقان بالمؤلفين أنفسهم وبالظروف المحيطةبإنتاجهم المتعدد: شهادات شخصية، حكايات سفرية، دفاعات قبلية، إنشاءشجرات أنسابية، معاهدات سياسية، تقارير عسكرية حول المعارك الصحراويةوحركات وحدات الجمالة ...
إن جزئا كبيرا من هذه المكتوبات يتعلق بمرحلة ما قبل التاريخ الوطني؛ تلك الحقبةالمعقدة، حيث كان الفاعلون يتصرفون انطلاقا من منطق آخر، في ظرف لم يكن إنشاءالدولة المستقبلية في الحسبان.
أما مرحلة المخاض، فإنها تضمنت فترات تأسيسية مثل المقاومة المناهضة للاستعمار،والدور الحاسم للمستعمر الفرنسي وظرفية استقلال المستعمرات الإفريقية، ...
و مثلت جسامة و ضخامة ورشة إنشاء الدولة الوطنية، غداة ولادة "مدينة اللافتات" تحت الخيمة، تعبيرا لكل مخاطر النجاة (أطماع الجيران، هشاشة الهيئات والبنيالتحتية).
وإذا كانت الاهتمامات المتعلقة ببناء الدولة الموريتانية الفتية، منصبة طيلة عقودهاالأولى صوب الحاضر، ضاربة عبر الحائط ماضي "مشحون بشياطين التفرقة والبلبلة"، فإن كلا من تقليد المحظور التاريخي ومعتقد فقد الذاكرة ومنهج الصحةالبيضاء وثقافة الأفواه المكممة...ساهمت في نشر توجس شديد من التاريخ الراسخفي الذاكرة الجماعية اللاواعية، إضافة إلي الشعور بالذنب تجاه أية إثارة أو تجليلكل ما له دلالة تاريخية.
وفي غياب تاريخ وطني، يوصف في ابعد الأحوال بالخطير والمجازف، كان اللجوءدائما بين راحة المعلمة التقليدية (تاريخ القبيلة، المجموعة،الأعراف،الولاية) والاستياء منماضي محمل بكافة أشكال الظلم و الدفن البين و البسيط لما تقدم والتأرجح بينلحظات النشوة التاريخية، متبوعة بلبلة يصعب التخلص منها.
إن التاريخ المهمل، مثل الأرض، ينجب المخلوقات الأكثر غرابة ويوقظ الأشباح النائمةمنذ ألف عام ويكشف عن كنوز لا تتغير بفعل العوامل... إن غياب السبل ووفرة الأماكنالخالية (المهجورة، المنسية) يجعل جرد الحصيلة أمرا مستعصيا.
فيجد هنالك ضعف الوازع الوطني قسطا كبيرا من أسباب ديمومته و التوجه إليالخارج سببا لوجوده و الترحال العقلي و السياسي ميدانا للتجريب، كما يجد فينابضات الاستقالة الجماعية أرضا خصبة وزمنا يكفي لإذابة الوازع الوطني فيميدان متاهات الغموض أو النظام الكوني...
أمام عجزه أن يصبح وطنيا، يحس بانتمائه لبلد، يصبح الشخص دوليا، عالميا أوكونيا أو يتجه إلي الاستمتاع الأسهل الذي يلجأ إليه عندما يختار الاحتماء وراء قشرةجلده، ملاذ كل العواطف و الحقائق السطحية.
ولهذه الأسباب، لا يزال المسار التشخيصي كله والفرز والمعلمة والقولبة تحتاج إليالاستكمال ولا يمكن ألا تكون نتيجة لعمل متعدد التخصصات، موضوعي وتوافقي.
فقيام وحدة الدراسات التاريخية و الاجتماعية و نشر التراث بجامعة نواكشوط بتنظيمندوة تحت عنوان "موريتانيا من 1960 إلى يومنا هذا، المكاسب والآفاق" يعتبر إسهامافي الجهود المبذولة.
كما أن نشر مذكرات رؤساء وشخصيات عايشوا أحداثا بارزة، ربما يساعد في تسليطالضوء علي مختلف مناطق الضبابية لفائدة الأجيال القادمة.
ففي مقدمة وصيته السياسية، "موريتانيا على درب التحديات"، ذكر أب الاستقلالالوطني، الأستاذ المختار ولد داداه، رحمه الله، ثلاثة تحديات كبرى وهي على التواليحسب الأولوية : الوجود، فالهوية ثم الديمقراطية أو التنمية.
وبما أن الوجود قد تجسد فعليا وأن الديمقراطية والتنمية قيد الإنجاز، فمازال النقاشحول مسألة الهوية يركن مكانه، بل إن مطالب المجموعات بدأت في التصاعد، بلجوئهاإلي روايات ذاتية و انتقائية.
أن إعادة الاعتبار للتاريخ الوطني، ستساهم، و أملنا كبير، في بلورة رؤية أكثر تبصراللمستقبل والي تثمين أكثر إنصافا للماضي.
سيدي محمد ولد عبد الوهاب
حائز علي شهادة في العلاقات الدولية