
وما زال في بلادنا من يستنجد بالغرب!
تابعتُ بعض محطات زيارة النائب خالي جالو لبروكسل، وما استقبل به من حفاوة وترحيب من طرف بعض نواب البرلمان الأوروبي، وكان مما استوقفني في هذه الزيارة استجداء النائب بالحكومات الغربية، وحثِّه للنواب الذين استقبلوه على اتخاذ خطوات وإجراءات ملموسة لنجدة من يعتبرهم مضطهدين يتعرضون للعنصرية والإقصاء والحرمان من الوثائق المدنية في موريتانيا.
حمل النائب الموقر إلى البرلمان الأوروبي الذي استقبله بحفاوة الكثير من المغالطات، ولستُ هنا للكشف عن زيف تلك المغالطات، فقد كشفتُ عنها في مناسبات سابقة، فكثيرا ما حمل بعض الموريتانيين إلى الغرب الكثير من المغالطات، وكثيرا ما استقبل أولئك الموريتانيين من مروجي المغالطات استقبال الأبطال في الغرب، وهو استقبال يطرح ـ بطبيعة الحال ـ أكثر من سؤال.
إن زيارة النائب خالي جالو لبروكسل، والحفاوة التي استقبل بها هناك، وتصريحاته واستنجاده بالبرلمان الأوروبي والحكومات الغربية، ليستدعي منا تقديم الملاحظات التالية:
1 ـ لم يعد يحقُّ للغرب عموما، ولا للبرلمان الأوروبي خصوصا، أن يتحدث عن حقوق الإنسان أو يدافع عنها خارج بلدانه، وذلك بعد أن شارك عسكريا ودبلوماسيا واقتصاديا في حرب الإبادة الأكثر بربرية ووحشية في التاريخ الحديث، وأقصد هنا حرب الإبادة في غزة.
لم يكن يحق للغرب أصلا أن يتحدث عن حقوق الإنسان، فتاريخه غير مشرف في هذا المجال، والشعوب التي استعمرها خير شاهد على ذلك، وإذا كان بإمكان الغرب أن يغطى في الماضي القريب على جرائمه خلال فترة الاستعمار بشعارات وعبارات براقة من قبيل "الضمير العالمي" و "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و"العالم المتحضر"، فإنه لم يعد بإمكانه اليوم أن يغطي على تلك الجرائم، ولا أن تتظاهر حكوماته ونخبه السياسية والحقوقية والإعلامية بالدفاع عن حقوق الإنسان، وذلك بعد أن عرتها حرب الإبادة في غزة.
2 ـ هناك موجة تحرر واسعة شهدتها دول عديدة في إفريقيا السوداء خلال السنوات الأخيرة، وقد قاد موجة التحرر هذه الشباب الافريقي، وكانت فرنسا هي الأكثر تضررا من آثارها، والأمثلة على ذلك عديدة، في مالي وبوركينافاسو وتشاد والنيجر وحتى السنغال وساحل العاج فقد وصلت إليهما العدوى، وكان من نتائج ذلك أن أخلت فرنسا قاعدتها العسكرية في ساحل العاج، وأن أعلنت عن نيتها إنهاء وجودها العسكري بشكل كامل في السنغال، وذلك بعد أن أعلن الرئيس السنغالي الجديد أن وجود قواعد عسكرية فرنسية في السنغال لم يعد مقبولا لتعارضه مع السيادة الوطنية.
في مثل هذا الوقت الذي يُظهر فيه الكثير من الشباب الإفريقي سخطه على الغرب عموما وفرنسا خصوصا، نجد أن بعض الشباب الموريتاني، وفي تناقض صارخ مع الوعي المتنامي لدى الشباب الإفريقي، يزيد من وتيرة خنوعه وخضوعه وإظهار كل أشكال الطاعة والانبهار بفرنسا وبكل ما له صلة بها أو بالغرب، فتجد بعض شبابنا يحج إلى بروكسل طلبا لتدخل الغرب ـ حكومات وساسة ـ لإنقاذ من يعتبرهم مضطهدين في بلده، وتخليصهم من الإقصاء والعنصرية والحرمان الذي يُمارس ضدهم .. يا للمفارقة.
3 ـ تمثلت أول إطلالة برلمانية للنائب الموقر خالي جالو بعد انتخابه نائبا في البرلمان في ظهوره في الجمعية الوطنية غاضبا عندما طُلب منه بأن يتحدث بلغته الأم، وقد رفض بشدة أن يتحدث بها أو باللغة الرسمية، مع العلم أن مداخلته كانت ستترجم إلى كل اللغات الوطنية وإلى اللغة الرسمية إن هو تحدث بلغته الأم، وهو ما سيتيح لكل الموريتانيين أن يسمعوه بكل لغاتهم الأم من خلال قناة البرلمانية. رفض النائب الشاب بشدة أن يتحدث بغير اللغة الفرنسية في أول إطلالة له في البرلمان، وذلك مع العلم أن مداخلته تلك لن تترجم إلى اللغات الوطنية، ولن يفهمها ـ بالتالي ـ إلا القليل جدا من الموريتانيين الذين صوتوا له وانتخبوه نائبا.
إن إصرار النائب خالي جالو ونواب آخرين على الحديث حصرا باللغة الفرنسية داخل البرلمان، جعل برلماننا يشكل حالة استثنائية من بين كل برلمانات العالم، فهو البرلمان الوحيد في هذا العالم الذي يمكن فيه لأي نائب أن يتحدث بأي لغة شاء، وفق مزاجه.
لا يوجد في النظام الداخلي للجمعية الوطنية مادة واحدة تسمح بالحديث بلغة غير دستورية في البرلمان (الفرنسية مثلا)، وتمنع الحديث بلغة غير دستورية أخرى كالإيطالية أو الاسبانية أو الإنجليزية. ولو أني انتخبتُ نائبا في البرلمان لترجمتُ مداخلة من مداخلتي إلى اللغة الصينية وعملتُ على حفظها عن ظهر قلب لتقديمها في إحدى الجلسات العلنية لفتا للانتباه على أن السماح بتقديم مداخلة في البرلمان الموريتاني باللغة الفرنسية، لا يختلف قانونا عن السماح لنائب آخر بأن يقدم مداخلته باللغة الصينية أو الروسية أو الإنجليزية، بحجة أنه درس في الصين أو في الروس أو في أمريكا، وأنه يتقن تلك اللغات أكثر من اللغة الرسمية للبلد أو من لغته الأم.
فإذا كان النائب خالي جالو يريد حقا أن يدافع عن فئة من الموريتانيين يرى هو أنها مضطهدة، فكان عليه أولا أن يعتز بلغته الأم، ولغة تلك الفئة التي يُدافع عنها، وأن لا يفضل عليها اللغة الفرنسية، والتي هي ـ بالمناسبة ـ في تراجع كبير، لدرجة أصبحت فيها بعض الدول الإفريقية الشقيقة والتي لا تمتلك لغة وطنية بديلة عنها، تحاول أن تبدل اللغة الفرنسية بلغة عالمية أخرى. ففي مالي مثلا نزعوا من دستورهم الجديد صفة الرسمية من اللغة الفرنسية، وتركوها للغاتهم الوطنية بما في ذلك اللغة العربية، وجعلوا من اللغة الفرنسية لغة عمل فقط، ربما في انتظار استبدالها كليا بلغة أخرى. وفي السنغال تم إدخال تدريس اللغة الإنجليزية في مرحلة التعليم ما قبل المدرسي، وقد اعتبر البعض أن تلك الخطوة ستتبعها خطوات أخرى في نفس الاتجاه، وهو ما سيهز من مكانة اللغة الفرنسية في السنغال.
4 ـ لو كنتُ نائبا في البرلمان الموريتاني لراسلتُ نواب البرلمان الأوروبي ولقلتُ لهم بأن عليهم أن ينشغلوا أولا بحكوماتهم التي دعمت حرب الإبادة الأكثر وحشية في التاريخ الحديث، وذلك من قبل أن ينشغلوا بحكومات بلدان أخرى. ولو كنتُ نائبا في البرلمان الموريتاني واجتمعت بأي نائب أوروبي لقلتُ له ذلك بلغة قوية وفصيحة وصريحة وجها لوجه. ولو كنتُ نائبا في البرلمان لأطلقت اليوم مبادرة من داخل البرلمان الموريتاني للرد على نواب البرلمان الأوروبي، وعلى كل المشتغلين في الغرب بالتدخل في شؤوننا الداخلية، وفي شؤون أي بلد إفريقي آخر سعيا لإحداث بلبلة وإشعال فتن داخلية، بحجة الدفاع عن "حقوق الإنسان" وحقوق الأقليات، وربما حقوق الشواذ مستقبلا.
ولعل الحسنة الوحيدة التي تُحسب للرئيس ترامب حتى الآن، هي أنه قال وبوضوح شديد بأنه لا يوجد إلا ذكر أو أنثى، وأنه لن يقبل بجنس ثالث في أمريكا، فربما يوقف قوله ذلك هذا الجنون الغربي ( الأوروبي خاصة) الساعي للاعتراف بحقوق الشواذ، وفرض ذلك الاعتراف على الدول التي كان يستعمرها.
ختاما
فليعلم النائب الموقر أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يملك الشرعية للدفاع عن حقوق الإنسان، وذلك بعد أن فضحته حرب الإبادة في غزة، ولم يعد عسله المزور بقادر على أن يخفي سمه الحقيقي والقاتل، ثم إنه ـ أي الاتحاد الأوروبي ـ لم يعد قادرا كذلك على فرض قيمه الزائفة على أي بلد آخر، خاصة بعد مجيء ترامب وتخليه عن أوروبا، وإعلانه عن رفضه للاعتراف بجنس ثالث كانت أوروبا ستحاول خلال السنوات القادمة أن تفرض الاعتراف به في بلداننا، والاعتراف بالشواذ كان هو آخر صرعة جديدة في قيم الغرب البائسة، وهي القيم التي كان يحاول الغرب علمنتها، وفرضها على بلداننا بحجة أنها هي قيم "العالم المتحضر"، وأنها حق من "حقوق الإنسان"، وأن "الضمير العالمي" لن يقبل برفضها أو بمعاداتها من أي دولة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
[email protected]