كان هناك رجل يخرج من منزله كلَّ صباح، في حوالي السادسة أو السادسة والنصف، بعد أن يحلق ذقنه وينقّط على راحة يده قطرات من كولونيا كثيفة ذهبية اللون، يمسح بها على خديه، يشعر لذوعتها ويعيش رائحة الليمون الخفيفة، مع اللذوعة وأنفاس العطر يُحسُّ بأنه يمرّ جوار بستان فاكهة يبدد رائحته الهواء، يرتدي بعدها حذاءه النظيف، اعتاد أن يمسحه بالفرشاة كمهمة أخيرة قبل النوم، ثم يخرج بخطوات هادئة، في الشتاء تصادفه الشمس في أولى لحظات شروقها، وفي الصيف تكون قد أنارت كل شئ، يلتقط حصاة من الممشى القريب، في أول الأمر كان ينتقي حصاة بعينها بعد أن يحمل بعضاً منها، يقلّبها بين يديه ثم يختار واحدة تناديه وترتاح لها نفسه، يضعها في جيب بنطلونه وهو يتحسسها بين وقت وآخر، ملمسها الصامت يضفي راحة على نفسه ويمنحه تكوّرها الصلب إحساسا بأنه يحمل شيئاً نادراً وثميناً، شيئاً لم يكن يُنقص إحساسه به أن يكون حصاة ملتقطة من ممشى قريب.
يعبر الرجل جسراً قصيراً بسياج حديد ليصل إلى أرض تنقطع فيها رائحة الليمون ويخفُّ بريق حذائه وهو يواصل مشيه الهادئ على ترابها حتى يصل قريباً من منزل وحيد بطابقين، له شرفة دائرية واسعة ونوافذ عريضة بمظلات خشب كالحة اللون، طالما تصوّره بيتاً صيفياً مهجوراً لصاحب مزرعة كبيرة، أيام كانت الأرض مزروعة بأشجار عالية فاتنة الخضرة.
يقف قريباً من سور البيت الحجري، ينظر إلى شرفته بأعمدتها المديدة المتصدعة، ويُخرج حصاته من جيبه، يتلمسها للمرّة الأخيرة، يدوّرها بين أصابعه قبل أن يميل بجسده ليُلقيها، بكل ما يعتمل في نفسه من شعور بالوحدة، نحو نافذة محددة كان قد كسر زجاجها منذ زمن بعيد. غالباً ما يُصيب هدفه فيسمع لسقوط الحصاة صوتاً مكتوماً داخل الغرفة، وفي أحيان متباعدة يخطئ هدفه، يحدث أن ترتجف يده أو تهون قواه، لسبب ما، فتضرب الحصاة حافة النافذة أو تطيش إلى الجدار.. لن يغيّر ذلك من شعوره شيئاً فمهمته الصباحية قد اكتملت على كل حال.
سقوط الحصاة في الغرفة، أو اصطدامها بحافة النافذة، أو طيشانها على الجدار هو النقطة الأخيرة على سطر جولته، يعود بعدها وقد تخفف من ثقل يوم كامل بنهاره وليله، لم يكن يفكّر فيه بغير اللحظة التي يرمي فيها حصاته على النافذة.
فور استدارته سمع صوتاً بعيداً، ليس صوت الريح التي تحمل الرائحة إنما هو صوت محرّك سيارة، أصاخ السمع فتأكد، محرّك سيارة حقاً، أضاف مع نفسه بأنها سيارة حمل، ربما، شاحنة متوسطة الحجم طالما رأى بعضاً منها تخطف من بعيد، على الجسر أصبحت الشاحنة بمواجهته، كل منهما على ضفة، ها هي إذن، انحرف إلى الجانب، فور صعوده الجسر، متكئاً على سياج الحديد تاركاً لها أن تمرّ، من النافذة رأى امرأة تنظر نحوه، رأسها يستدير باتجاهه مع مرور الشاحنة، عيناها واسعتان كأنهما مفتوحتان منذ زمن بعيد، يرتسم أسفل كل منهما قوس رمادي باهت مثل هلال مقلوب، وشعرها مشدود إلى الوراء. رجعت المرأة برأسها كما لو كانت قد اكتفت من رؤيته، وأطلّ وجه رجل بشارب كثيف ولحية خفيفة بيضاء يقود الشاحنة، كان ينظر له هو الآخر.
استغرب رجل الشاحنة أن يرى رجلاً على الجسر أول الصباح، فهو لم يوافق على السكن في المنزل إلا بعد أن تأكد من تحقق شرطه الوحيد: أن يكون المنزل بعيداً عن كل صوت، لكن رؤية الرجل وقد استند إلى سياج الجسر حدّثته أنه سيرى آخرين يمكن أن تتعالى أصواتهم في كل وقت.
في صباح اليوم التالي خرج الرجل، كعادته، في حوالي السادسة صباحاً متبوعاً برائحة الليمون، يعتمل في نفسه الاحساس نفسه بأنه يمرّ جوار بستان فاكهة، متوجهاً بخطواته الهادئة وحذائه النظيف نحو الممشى القريب، التقط حصاة نادته وارتاحت لها نفسه، وضعها في جيب بنطلونه ومضى يعبر الجسر.
لم ينم الرجل ذو الشارب الكثيف واللحية الخفيفة البيضاء ليلته، منذ أن مرضت زوجته وهو لا ينام، يخطف غفوة قصيرة في أي وقت يعود بعدها لينظر لزوجته لعلها أغمضت عينيها، يقترب حافياً منها، خطواته لا تكاد تسمع، ينظر لوجهها وهو يزداد شحوباً كل يوم، منذ أن أصابها المرض وهي لم تغمض عينيها لحظة واحدة، فكّر في بداية الأمر أن التعب وحده كفيل بأن يرمي بها في مهاوي النوم، لكنها لم تكن تنام أبداً، كلما مرّ بها الوقت كانت عيناها تتحجران، قال ذلك للطبيب الذي التفت للمرأة كأنه يراها للمرّة الأولى.
ـ تتحجران، لا لا، إنهما مفتوحتان فحسب.
ذلك ما قاله قبل أن ينصحه بالابتعاد عن كل صوت.
ـ أي صوت، مهما كان خفيضاً، يؤرّق المرأة ويزيد من مرضها.
وافق الزوج على الانتقال إلى المنزل بعد أن تأكد، وقد زاره أكثر من مرّة، من انقطاعه عن كل صوت.
فتح نافذة الغرفة مكسورة الزجاج، الغرفة التي دخلها في المرّات السابقة مستغرباً تناثر الحصى على أرضها، في الليل حينما حمل بندقيته إليها لم يكن يتصوّر وجود حصى بهذا الكم داخلها، كان يتحرّك في الظلام كما لو كان يسير على درب غير معبّد، اقترب من النافذة ثم رجع فور رؤيته رجل الجسر قريباً من سياج المنزل، وأخذ يراقبه من بعيد، رآه يُخرج يده من جيب بنطلونه، يفرك أصابعه ثم يميل بجسده ويرمي شيئاً ما نحو النافذة، يا الهي إنها حصاة، حصاة نظيفة سوداء تعبر النافذة وتسقط على أرض الغرفة، انحنى من فوره ليرفع بندقيته المسندة إلى الجدار، كان يستعيد حركة طالما ألفها: أن ينحني رافعاً بندقيته، ربما كان صياداً خبيراً، أو حارساً ليلياً، أو ضابطاً دخل حرباً طويلة قاسية لم يتصوّر أنها ستنتهي يوماً، ربما يكون أياً منهم فهم جميعاً يألفون الانحناء القليل لالتقاط بندقية مسندة إلى جدار.
ضجيج أقسام البندقية كان كافياً ليلفت اهتمام رجل الحصى، رفع رأسه من جديد ناظراً نحو نافذة الغرفة، مستغرباً للصوت الذي كسر صمت المنزل، وفي اللحظة التي حاول فيها أن يستدير وقد أقنع نفسه بأنه لم يسمع شيئاً، أي شئ، سدّد الآخر بندقيته وأطلق النار لتستقر رصاصتها، بإصابة ذكيّة، فوق حاجب العين اليسرى، تماماً، مخلّفة نقرة صغيرة لا تبين، لحظات هيّنة مرّت أغمض الثلاثة بعدها أعينهم، المرأة المريضة المستلقية على سريرها وقد ارتجفت أجفانها للمرّة الأولى منذ زمن بعيد، ورجل الحصى الذي لم يفكّر بعد باكتمال مهمته الصباحية، ورجل البندقيّة.
٭ كاتب عراقي
لؤي حمزة عبّاس