نادرا ما يكتب الصحراوي عن شدة البرودة، ونسمات الصباح، فهو خشن لا تتحسس مجساته العاطفية الأشياء اللطيفة، ولا ترصد حاسته الجمالية إلا مفاتن الحبيبة المرأة، دون محاسن الحبيبة الطبيعة، وربما هذا هو السر في أن العرب لا يعيرون اهتماما كبيرا لمباهج الطبيعة، إلا في النزر النادر من شعرهم ونثرهم، الذي منه المكتوب في جلق (دمشق)، وفي الأندلس، حيث تقلد بن خفاجة وسام شاعر الطبيعة، ولا عجب، فثمة التقى العربي بالجداول والخمائل والزهور ووجه الأرض الأخضر، الذي تتسلل في مفاتنه المياه الفضية الرقراقة.
وأنا اليوم –يا سادتي- أفسخ جلباب السياسة والشأن العام بمفهومه التقليدي، لأكتب عن الشتاء القادم في موريتانيا، لأتحدث عن الطبيعة والطقس، فوطني ليس إلا شتاءً، ففي الشتاء وحده عندنا تبدأ الطبيعة تتنهد، يتعالى صدرها ويهبط، وترسل رياحا طيبة رطبة جافة في الآن ذاته، ويبدأ الموريتاني الخارج توا من أجواء الصيف والخريف ينام ملء جفونه، بعد أشهر من الحر الغائظ، وفيح جهنم المرير، فالبلاد بدون الشتاء لا تساوي شيئا، البلاد بدون الشتاء إقامة على كف عفريت متهور، وسكن على جفن بركان ثائر، يتعذب إنسانها كما يتعذب الفأر الرابض في جحر تتلاهب عليه أنفاس الهجيرة اللافحة، وتسوره القطط الجائعة.
البلاد عندنا بدون الشتاء مريرة، قد تشاركونني الرأي، وقد لا ...، وربما نختلف في تحمل أجسامنا، وفي تعدد أذواقنا، وفي تقديرنا لقيمة البرد والحر، ولكنني سأقول رأيي بصراحة، وأعبر عن أجمل موسم في التقويم يمر بنا في هذا المنتأى الواسع، حيث يعانق الشنقيطي البرد مرة كل عام، في فصل يقبل ضاحكا طيب الأنفاس، يسمح لنا أن نسير منتعشي الآمال، متوهجي المشاعر، نسامر بعضنا البعض على كؤوس الشاي العذبة، والنسمات تتوافد ضيوفا على مسامات الجسد، المنهكة بفعل فصول الحر، التي يتصبب فيها المرء عرقا ونكدا، وتمارس ضغطا مرتفعا على النفس والطقس، يكون فيه الشخص كبيضة يتلاعب بها الماء لحظة الفوران، وما أصعب الحر في بلادنا.
اسمحوا لي أن أرحب بالشتاء، لقد كان طيبا يوم عرفته في مدن الشمال، في "أطار" تحديدا، حيث قضيت طفولتي الوادعة، وكان المطر الخفيف النادر أحيانا يزور على حين غرة، ربما يرحب بالشتاء على قلة تلك الزخات، وكنا ننتشي زهوا وفرحا بالبرودة العذبة، نصطلي على مدافئ مملوءة فحما، وبخورا، ونتحدث عن أيام الصالحين، وقصص الأولين، وعن الكرم والسماحة وروح التضحية، والمقاومة، التي تطبع وتزين أقصوصة الإنسان الموريتاني.
وتشاء الأقدار أن أضرب في الأرض طولا وعرضا، لأستقر في العاصمة انواكشوط، وبرغم اختلاف البيئات في الوطن، فالعاصمة وبرغم وجود البحر إلا أن الطقس يحافظ على الحرارة سيمة غالبة، على أن البحر في كل مساء يتنفس بقوة، وكأن الحرارة تحاول قتله، وعندما تطمئن على أنها أسكنت أنفاسه للأبد، وفي استقبال مهيب للحياة وبعد الظهيرة يتثاءب البحر بقوة، يرسل أنفاسه الرطبة في الضواحي القريبة من الشاطئ، معلنا أنه لا يزال حيا، وأن السمك في بطنه لا يزال بخير.
لم تختلف كثيرا الأمور، فأينما أقمت في وطني لا أجد إلا الشتاء، يساوي الفقير والغني، يضع حدا لآلات التكييف، وآلات القتل المشرعة في سيف الحر، الذي يحارب بدون رحمة حدا.
ولا شك أنه توجد عيوب في الشتاء، لكنني لن أكون ناكرا لجميل برودته وعذوبته، وأسردها، بالعكس، إن عيوب الشتاء منسية بالنظر إلى فوائده الكثيرة، وإلى الراحة النفسية، التي يطبع بها الحياة جبلا وسهلا وبحرا.
وأنا أكتب هذه السطور ترحيبا بالشتاء القادم، وتوديعا لأيام وليالي طالت حتى خلتها ليست بالمنقضية، خبرت خلالها اللهب المتصاعد من الأرض، والحرارة النازلة من السماء، التي تطوق أسوار المدن والقرى، وكأنها نار تشتعل على غار تختفي فيه حية، سرعان ما تخرج لتنهال عليها العصي، التي هي في عالم الحرارة ضربات الشمس، التي لا ترحم، وتقتنص في كل سنة أروحا بريئة.
يا مرحبا بالشتاء القادم، ووداعا صديقي الصيف، وحبذا لو وجدت لك مهجرا تسكنه، لو سكنت في الكاريبي أو الكاجيبي، لو تركتنا حتى نهاتفك بأننا اشتقنا إليك، وأعتقد أننا لن نفعل إلا عندما نصبح سيبريا ثانية، أو ننسى الصيف المنصرم، وكيف ننساه؟ ........