:
تهافت البعض هذه الأيام على استخلاص دروسهم من سقوط النهضة في انتخابات تونس التشريعية، وسقوط نظام بليز في بوركينا فاسو، فينتقون الدروس التي يريدون استخلاصها بعناية لا تهتم كثيرا بواقع الحال وسياقاته، فيقلب بعضهم هزيمة النهضة انتصارا متغافلا عن الأسباب الحقيقية لسقوطها!
يعلم كاتب "الدرس الثاني" أن النهضة سقطت حين بدلت جلدها الذي ناضلت به طوال أيام وجودها في المعارضة لنظامي بورقيبة وبن علي. فقد تخلت النهضة، حين مكن لها الله في الأرض، عن كل شعاراتها الإسلامية فأصبحت من أكثر المدافعين عن شعارات العلمانية حماسة، فكان زعيمها منظر "التعايش السلمي بين الإسلام والعلمانية" اقتداءً بمنظري الديمقراطيات المسيحية. فلم تعد النهضة (مثلها مثل جميع حركات الإسلام السياسي) تهدف إلى إقامة دولة إسلامية، وإنما اكتفت بالبحث عن دور لحزب سياسي ذي خلفية إسلامية، في نظام علماني.
ألم يفتخر الغنوشي بأن نهضته فتحت الجامع إلى جانب الخمارة فمن شاء أن يدخل الجامع دخله، ومن شاء الذهاب إلى الخمارة ذهب! وفي ذلك تحقيق لمبدأ العلمانية وهو المساواة، في عرف الدولة المدنية بين الجامع والخمارة؛ فكما أن على الدولة المدنية تمكين المؤمنين من إقامة شعائرهم، عليها أيضا حماية حقوق السكارى في ارتياد الخمارات! وهذا بالذات ما عرضه المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة: تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، نقاسمك المال والملك... وقد رفض صلى الله عليه وسلم تلك العروض السخية، وقبلتها حركة النهضة من أجل المشاركة في الحكم، وفي ذلك فيصل بينها وبين دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. فتلك الدعوة تجمع لأتباعها الدنيا والآخرة خالصتين من أي مساومة على العقيدة والشريعة.
لقد قبلت حركة النهضة، مقابل مشاركتها في الحكم، التخلي بشكل كامل عن كل شعاراتها الإسلامية، فظهر ذلك جليا في الدستور الذي شاركت في صياغته فجاء دستورا علمانيا بامتياز تظاهر ضده علماء تونس، وأئمتها ووصفوه بالكفر. وليس من الغريب أن يتغنى به كاتب " الدرس الثاني" وهو من زعماء الإخوان المحليين. يقول الفصل الأول من الدستور إن "تونس دولة حرة ذات سيادة، الإسلام دينها،..." بهذه الصياغة ليست تونس دولة إسلامية، وإنما هي دولة حرة ذات سيادة. هذه هي صفات الجمهورية التي لا يجوز تعديلها! وحين نصل إلى الإسلام يضاف إلى الدولة بدل أن تضاف هي إليه.."الإسلام دينها" بمعنى امتلاكها له، والمالك حر في التصرف في ملكه، لذلك ستختار الدولة من دينها ما يناسب طبيعتها العلمانية وهذا ما عبر عنه الدستور بوضوح في فصله الثاني حين قال.."تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون."
يحدد هذا الفصل الثاني، الذي لا يجوز تعديله، ما الذي ستختاره الدولة من دينها الإسلامي بحيث لا يتعارض مع أصولها العلمانية. لقد أفرغ هذا الفصل كون الإسلام دين الدولة من أي معنى إسلامي. ففرنسا دولة مسيحية لكن الدين لا ينهض فيها بأي دور حقيقي. كذلك فإن تونس دولة مدنية دينها الإسلام الذي يخضع لإرادة الشعب وعلوية القوانين غير المستمدة من الإسلام! الفصل الثاني إذن وضع لإزالة لبس "الإسلام دينها"، فهي مدنية بمعنى أنها بلا عقيدة ولا شريعة إلا العقيدة التي لا تتعارض مع إرادة الشعب، والشريعة التي تسنها القوانين.
يشرح الفصل الثاني الفصل الأول في ضوء فهم العلمانية لموقف الدولة المدنية من الدين. وبذلك تنازلت النهضة عن خطابها الإسلامي فهزمت في الانتخابات لأن العلمانيين فضلوا التصويت للنسخة الأصلية بدل المقلدة، واختار الذين يريدون إقامة دولة إسلامية الالتحاق بجبل الشعانبي بعد أن أصبح الإخوان علمانيين، فلم يصوت للنهضة سوى منتسبيها المستفيدين منها، تماما مثل منتسبي الأحزاب العلمانية.
وبذلك دفعت النهضة الشباب الذين رأوا فيها حركة إسلامية تعمل على إقامة دولة إسلامية، إلى التطرف وحمل السلاح حين خانهم سياسيو الإخوان الذين يعملون على علمنة الإسلام فأصبحوا أكبر خطر عليه من العلمانيين الذين يستبعدونه من الحياة العامة، بينما يحرفه الإخوان ليسمح لهم بتمثيله في الحياة العامة، مع استبعاد الإسلام عقيدة وشريعة من الحياة العامة للمسلمين، وإنتاج نسخة من الإسلام المنفتح على العلمانية الوسطى بين الإلحاد والشرك...
تلكم هي الأسباب الجلية لسقوط النهضة لكن صاحب الدرس الثاني يتعامى عنها ليبجل علمنة النهضة وهي مثاله في عمله السياسي. فهذا الثناء المفرط على دستور النهضة العلماني لم نسمعه من صاحب الدرس الثاني حين يتعلق الأمر بالدستور الموريتاني الذي نص على أن موريتانيا جمهورية إسلامية، وعلى أن القوانين تستمد من الشريعة الإسلامية، ولا يمكن سن قانون يتعارض مع أحكامها. ولم ترد في دستور النهضة العلماني كلمة الشريعة مرة واحدة، ولا مشتقاتها إلا مسندة للشعب صاحب الإرادة الحرة...
ونص دستور النهضة العلماني على حرية العقيدة وهو ما يعني المساواة في عرف الدولة المدنية التونسية بين المؤمن والملحد، ولا تكافؤ في شرع الله بين مؤمن وكافر، ولا ولاية لكافر على مؤمن، لكن دستور النهضة العلماني يقر كل ذلك. لا يجرم دستور النهضة الكفر، بل يبيحه، ويعترف به على قدم المساواة مع الإيمان، لكنه يجرم التكفير، أي أن يقال لما صفته الكفر إنه كفر!!! كل هذا يصدر من حزب يدعي أن خلفيته إسلامية، ويمجده من يدعي في دولة عنوانها الإسلام، أنه زعيم حزب ذي خلفية إسلامية!!
لقد فضحت فتنة الربيع الإخوان المسلمين في كل مكان، فسقط قناع الإسلام الذي طالما تواروا خلفه، حتى إذا أصبحوا في السلطة تخلوا عن الإسلام من أجل البقاء فيها.. يخادعون الله وهو خادعهم. ورغم تخليهم عن الدين في سبيل الدنيا فقد ظهر عجزهم عن النهوض بأعباء الحكم الدنيوي الذي لا مكان فيه للآخرة؛ تخلوا عن الدين وعجزوا عن إدارة الدنيا.. دمروا بلاد الإسلام، وارتموا في أحضان الغرب فلفظتهم الشعوب التي طالما خدعوها بشعارات لم تتجاوز حناجرهم. نفروا من الإسلام في كل مكان؛ تسموا بالنهضة، والعدالة والتنمية، وهي شعارات الأحزاب اليسارية ذات الخلفية الشيوعية.
في عهد النهضة في تونس انتشرت الجريمة وقد كانت تونس آمنة زمن بن علي. في عهد النهضة انتشرت الرشوة من مطار قرطاج حتى المصحات والإدارات، ولم تنتشر الرشوة في زمن الزين كما انتشرت زمن الحزب ذي الخلفية الإسلامية.
في زمن النهضة انتشرت القمامة في شوارع المدن التونسية، وقد كانت مثال النظافة والجمال زمن الزين. في زمن النهضة ازدادت البطالة، وارتفعت الأسعار فدفعت النهضة الملايين لمناضليها تعويضا لهم عما أصابهم في جنب الله، فكانت أول حزب سياسي يحدد سعرا عينيا للنضال من أجل حقوق الفقراء، وحرية المواطنين، والنظام الديمقراطي.. لقد أرادوا حرث الدنيا، وما لهم في الآخرة من خلاق... سقطت النهضة كما سقط إخوان مصر واليمن وليبيا، وبقي إخوان السودان يترنحون كالذي يتخبطه الشيطان من المس، والدور آت عليهم كما أتى على غيرهم من الإخوان...
يشبه تساقط الإخوان في بلاد الإسلام تساقط قبائل اليهود في المدينة وخيبر، فقد ظلت أوكار خيانة تكيد للإسلام والمسلمين، ولم ينطلق الإسلام في فتوحاته المظفرة إلا بعد أن أخرج اليهود من جزيرة العرب فحمى ظهره من خياناتهم ومكائدهم. واليوم، وقد تساقط الإخوان في كل مكان كالهشيم فإن الإسلام سيعرف انطلاقة جديدة مظفرة على أيدي أبنائه المؤمنين حقا، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر...
أما سقوط بليز فهو نهاية قرصان قاتل لئيم. فقد استخدمه هوفوت بونيي وفرنسا لإجهاض الثورة البركينية التي قادها صديقه توماس سنكارا. كان بليز، حتى سقوطه منفذ المهمات القذرة للغرب في غرب القارة، فلم تكن وساطاته في النزاعات سوى عملية استخباراتية غربية يحصل الإستعمار من خلالها على أدق تفاصيل الملفات التي يتوسط فيها بليز، فهو عين الغرب وأذنه في المنطقة.
وحين ظهر الإرهاب، وعصابات الجريمة المنظمة كان بليز العراب والمخبر المندس، فربط علاقات صداقة مع الإرهابيين والمهربين يبتز بهم الأنظمة الديمقراطية التي أحاطت به فأزعجته شرعيتها التي يفتقدها. انتهى بليز حين قرر الغرب أن دور الإرهابيين والمهربين قد انتهى في منطقة الساحل، ومثل أي قاتل مأجور تم التخلص من بليز بعد أن أنجز المهمة القذرة...
أما السقوط الثالث هذه الأيام فهو سقوط نائب رئيس حزب تواصل ذي الخلفية الإسلامية، ولسقوطه قصة أخرى تلخص الصراع الجهوي داخل الحزب. محمد غلام زعيم كتلة تواصل في البرلمان لم يرشحه حزبه لرئاسة مؤسسة المعارضة وفضل عليه عمدة عرفات! أمر غريب!! يتقدم محمد غلام على عمدة عرفات في هرم الحزب، وجود محمد غلام في البرلمان يجعله شبه متفرغ للمؤسسة، بينما ينشغل العمدة بمصالح سكان المقاطعة الأكبر في نواكشوط.
عرف محمد غلام بالبذاءة في القول وهو ما يناسب زعامة معارضة تكيل الشتائم بلا حساب... فما الذي جعل الرئاسة تزور عنه؟ الصراع داخل الحزب بين مشرق الشمس ومغربها. وبما أن شمس الحزب تغادر الشرق باكرا لتؤول إلى الغرب قرر أصحاب العين الحمئة أن خروج زعامة المعارضة منهم إلى الذين لم نجعل لهم من دونها سترا، فأصبحوا "عاجزين سياسيا"، أمر لا يليق، فتم حرمان محمد غلام ومنحت للعمدة الوسطي بين مشرق الشمس ومغربها، فهي تشرق على فرعه، وتغرب عند أصله...
لم يستخلص أحد في تواصل، ولا في التكتل، الدرس من سقوط غلام من تواصل لأن الأمر شائع يتكرر بمحاولاته المشي في القافلة، والحبو على الكاغد، والجلوس على كرسي زعامة المعارضة... حلقات متواصلة في سلسلة "حصاده المر"...
سيدي محمد ولد ابه