من المسائل الشائكة المتعلقة بالثقافة عموما، في وطننا العربي، التي كنت دائما أتحسس كثيرا قبل الخوض فيها، بوصفها مسألة بلا حل ممكن في الوقت الحالي، مسألة علاقة الناشر بالمؤلف.. وانعكاساتها على ما ينتجه المؤلف من أعمال، وما يقدمه الناشر للمؤلف في هذا الصدد، وإن كان من الممكن أن يساعد ذلك في ازدهار الثقافة عموما أو وأدها؟
حقيقة في البداية نتحدث عن تعريف المؤلف، وإن كان سيطابق التعريف الذي سيلصقه معظم الناشرين به سرا، أم لا؟
فالمؤلف هو ذلك المبدع الذي يصنع كتابة معينة من الخيال، يروي قصصا فيها أشياء حقيقية وغير حقيقية، وهو أيضا ذلك الناقد الذي يصيغ الكتب للتعريف بالآداب، وهو الكاتب المسرحي، الذي يصيغ المسرح حروفا تترجم بعد ذلك إلى نصوص ممثلة على المسرح، وهو الكاتب السياسي والعلمي ومؤلف الأغاني، وتعريفات كثيرة، تطلق على كل مبدع في مجاله، سعى ليعد كتابا معينا، يدفع به إلى ناشر ما، من أجل إيصاله إلى الناس.
هذا جيد أكيد، فنحن إذن إزاء شخص يعمل بجهد، يستهلك ساعات وأياما وشهورا في العمل، وربما يدفع من ماله الخاص، إن كان يملك مالا، لمن يقوم بتصحيح النص وتحريره، وفي النهاية يسعى لنشره في واحدة من دور النشر الكثيرة المتعددة، الموجودة في الوطن العربي، وما أكثرها في هذه الأيام، وأجد في كل يوم وفي كل معرض كتاب أزوره، دار نشر جديدة، تطبع بكفاءة الدور القديمة نفسها، وتسعى لاكتساب قراء بأي شكل من الأشكال.
لكن ما هو التعريف الحقيقي للمؤلف، في وسط تلك الحمى الغريبة من النشر، هل هو مبدع فعلا، وجدير باقتفاء آثاره أم مجرد سلعة إما رائجة، فيحتفى بها لمصلحة طرف واحد في التعاقد، هو الناشر، وإما كاسدة، فيحتفى بما تدفعه من تكلفة وربح من أجل أن يكون ثمة كتاب موجود في السوق والمعارض باسم مؤلف ما، سيبدو منتشيا وهو يوقع النسخ لأصدقاء يلملمهم من أجل ذلك؟
ما ذكرته هو الحقيقة، فالمؤلف مهما علا شأنه ومهما اشتهر، وحصد من قراء، وباع آلاف النسخ، فليس له أي شيء، ليس له حتى ذرات من الريح، الناشر يسعى له، ولكتبه، ينشره بطريقة جيدة، ويوزعه بطرق كثيرة، ولكن يظل أسيرا لديه، لا يستطيع أن يتزحزح شبرا إلا بإرادته، ولا يستطيع أن يسترد كتابه، مع كافة الحقوق في أي وقت، كما هو مفترض أن يحدث، عند انتهاء عقوده، ذلك لأن الناشر يمسك الخيط وطرفيه، والمؤلف لا يمسك أي شيء.
هذا ما يختص بالمؤلف الكبير، ويأتي بعد ذلك المؤلف الصغير الذي يظل يدفع مما يملك ولا يملك، من أجل أن ينشر كتابا، على أمل أن تتعدل الحال ذات يوم، لكن الحال لا تتعدل أبدا، ويظل كل شيء كما هو.
قد يقول البعض، إن هناك دور نشر تدفع حقوق مؤلفيها بانتظام حسب عقود وقعوها. هذا صحيح لكن كم عدد تلك الدور المنضبطة التي تقدر مؤلفها، وتسعى لتعويضه عن ذلك الجهد الذي بذله، حتى يسلمها كتابا.
قد يقول آخرون، إن الترجمة إلى لغات أخرى، تعد تعويضا جيدا للكاتب، لكن كم كاتبا تتم ترجمته سنويا، وكم دار نشر غربية تهتم أصلا بالعرب وما ينتجونه من فكر أو أدب.. وكل ما تحمله نشرات الأخبار عن العرب، ملوث بالدم؟
المحصلة في هذا الاتجاه، أي اتجاه الترجمة، صفر بامتياز. وحتى الدور التي تهتم، فمعظمها دور نشر صغيرة، تقوم على الدعم من التبرع، وهي بالتالي أحق بالشفقة من المؤلف نفسه، ومغامرة بيع الأدب العربي مترجما كما ذكرت هنا قبل ذلك، هي أكثر مغامرة وعرة قد يخوضها ناشر أجنبي.
أريد أن أطرح هنا مبدأ الوكيل الأدبي، أي الشخص الذي يرتبط بالمؤلفين من جهة، وفي الوقت نفسه يرتبط بدور النشر المختلفة في جميع أنحاء العالم، من أجل تسويق المؤلفين وضمان حقوقهم لدى جهات النشر، من الجهة الأخرى. إنها وظيفة مهمة بلا شك، وقد عرفها الغرب باكرا، ربما بعد تعرفه إلى حيل النشر، هناك حين يكتب أحدهم كتابا أدبيا أو غير أدبي، لا يبحث عن ناشر إطلاقا، ولكن عن وكيل أدبي، ربما ربما يعجبه نصه، ويتبنى ما كتبه، وبالتالي، يتبنى مسؤولية إطلاقه قمرا في سماء التأليف. نحن في الوطن العربي لا نعرف مسألة الوكيل هذه، ولا أظنها خطرت على بال أحد ما أن ينشئ وكالة أدبية، تهتم بحقوق المؤلفين لدى دور النشر العربية، وقد كان لدي منذ سنوات وكيلة أدبية إيطالية، تهتم بنشر مؤلفاتي بلغات أخرى، وأخبرتني عن رغبتها في تبني نشر الكتب عربيا، بحيث تتعاقد هي بدلا عني لدى دور النشر العربية، لكنني حذرتها بأن لا وجود لمهنتها في خريطة أذهان ناشرينا العرب.
لا أعتقد أن اكتساب الوسائل الكفيلة بترقية الثقافة، يعد اعتداء على أحد، ولا وجود وكيل أدبي خاص بالنشر العربي، بلا معنى، فطالما أن الأدب مرادف للفن، حيث يقال الآداب والفنون، أو يقال إن الأديب فنان، فليحذو الأديب حذو الفنان، فكثير من الفنانين، وأعني مبدعي الفنون التشكيلية، لهم وكلاء يوزعون أعمالهم، أما المطرب، وهو فنان من نوع آخر، أكثر دهاء، وتمكنا من المؤلف، فقد دخلت مسألة الوكيل إلى مهنته منذ عهد بعيد.
المبدأ الخاص بوكيل للمؤلف سيتعثر أول الأمر في عقبات كثيرة، لكنه في النهاية سينجح، أسوة بأي عمل آخر، بدأ غريبا وغامضا واتضحت صورته ومعها أهميته بعد ذلك.
٭ كاتب سوداني