هذا تعليق شاركت به في ندوة ادبية وتناولت فيه نصا ادبيا، لم اذكر اسمه في هذه السطور، لأنني فيما يبدو اكتفيت بذكره في تقديم ارتجلته ارتجالا في هذه الندوة، ثم لم اجد حاجة لذكره في هذا التعليق المكتوب، فصار يمكن ان يكون تذكيرا بالعناصر المطلوب توفرها في العمل الروائي، بشكل عام، وهذا نص الحديث، الذي لن احاول الآن ان اتذكر العمل الذي كتبت بخصوصه هذا النقد لانه يصبح بهذه الطريقة اكثر صلاحية وجدوى مما لو ذكر ذلك النص.
استهل حديثي بقضية تجنيس النص الادبي، قائلا ان من حق المؤلف ان يسمي هذا النص رواية، فالرواية كما نعلم عمل فني مفتوح على شتى التعريفات، ولعل تسمية «نوفل» في اللغة الانكليزية يعطي هذا المعنى أي «الجديد» او «التجديد»، خاصة اننا نعيش الآن في ما يمكن ان تسميه عصر الحدود المفتوحة، لا بين البلاد فقط، ولكن بين النصوص الادبية، فما اكثر ما رأينا الحدود تضيق بين اشكال ابداعية كالقصة والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية والتراجم وغيرها، وما اكثر النصوص التي ظهرت تحت اسم النص المفتوح وحققت اعتراف المجتمعات الادبية بها، ويرى المؤلف انه كتب رواية تسجيلية، وقد ارى انا كقارئ انها رواية سيكولوجية لما فيها من استبطان وبوح وسبر لاغوار النفس البشرية.
وهو كلام اقوله لا لمجرد معاكسة الكاتب واعطاء تسمية اخرى للتوصيف الذي اعطاه للرواية، ولكن لان لدي تحفظات شديدة على تسميات مثل الرواية التسجيلية، او الرواية الوثائقية، فهي تسمية تحتوي على درجة من التناقض، واجد تعبير رواية تسجيلية او وثائقية لا يستقيم في معناه، لانه يجافي التعريف الذي يتفق عليه المنظرون الادبيون لفن السرد الروائي، ومهما اختلفت تعريفات الرواية فانها تتفق على عنصر اساسي لا تسمى الرواية رواية الا به، هو عنصر الخيال، فالخيال شرط لابد منه لاي عمل روائي، ولهذا فان التوثيق او التسجيل قد ينقل العمل الادبي من خانة الرواية الى خانة اخرى بعيدا عنها، واقول ايضا، بعد ان قلت هذا الكلام، ان كلمة رواية كتصنيف للنص الادبي، لا تمنحه اي ميزة على اعمال ونصوص فنية اخرى، فلا ينتقص شيئا من هذا النص الجميل، ان نعتبره جزءا من سيرة الكاتب، او ذكرياته عن فصل من فصول حياته، او رحلة تأمل واستبطان عاشها وقام بستجيلها كنوع من التأملات، او مغامرة روحية اراد اثباتها فوق الورق. ونعرف ايضا ان هناك من يعطي تسمية لنوع من الروايات يسميها رواية السيرة الذاتية.
شخصيا لا أرى انه يضير العمل ان يكون سير ذاته ولا يكون رواية، ولا حاجة لحشره في سيرة الرواية، وكأنه لا يستطيع ان يقف على قدميه من دون عكاز الرواية، ولعل هنا ايضا نجد بعض التصادم بين اللونين، فالسيرة الذاتية، توثيق لحياة انسان، حيث يلتزم الكاتب بهذه السيرة التزام الصدق في استحضار الوقائع والاحداث التي عاشها، بينما تتحرك الرواية في ما يمكن ان نسميه فضاءات الحرية، من دون هذه القيود التي تفرضها شروط السيرة على صاحبها، وأريد أن أضع تفريقا بين السيرة الذاتية ونوع من الروايات يستمد فيها الكاتب شيئا من مادتها من سيرته الذاتيه من دون التزام بهذه السيرة، وهنا يمكن طبعا ان تفارق الرواية السيرة وتكتسب شرعية انتسابها إلى فن الرواية، وعلى سبيل المثال فان «يوميات نائب في الارياف» لتوفيق الحكيم، رواية ورواية مهمة في تاريخ الأدب العربي، لانها من اعمال قليلة كتبت في وقت مبكر، هو وقت البدايات وزمن الريادة في كتابة هذا الفن، وهي رواية لانها ليست سيرة ذاتية انما مستمدة من احداث عاشها الكاتب، من دون ان يلتزم بها.
فيما كتابه «سجن العمر»، كان سيرة ذاتية لانه كتبه على هذا الاساس، وسجل فيه بصدق وامانة ما حصل له من احداث في حياته. وعلى سبيل المثال ايضا نقول ان كتاب «الايام» لطه حسين لا يضيره انه ليس رواية ولا ينقص من قيمته ذلك، فهو نص ادبي بالغ الرقي، ينتمي الى ادب السيرة الذاتية، ويحتل مكانه باعتباره درة من الدرر الرفيعة التي كتبها عميد الأدبي العربي، ربما تتقدم مرتبة على اعمال ادبية روائية مثل «شجرة البؤس» و«دعاء الكروا»ن و»المعذبون في الارض»، كذلك فان «اعترافات كازانوفا»، ليس رواية، وانما سيرة ذاتية متميزة وفريدة، جعلت من كاتبها نفسه اسطورة، ونقلته من رجل ينتمي الى عامة الناس حيث كان في اواخر حياته يعمل موظفا في مكتبة عامة، الى ان يصبح بعد انجاز هذه المذكرات واحدا من ابطال الاساطير.
ان هذا النص الابداعي حتى ان لم يكن رواية بالمعني التقليدي، فما اكثر الوشائج التي تربط بينه وبين الابداع الروائي، ففيه من الرواية الشخصيات، وبالذات شخصية الراوي، وفيه ايضا من مقومات العمل الروائي الاحداث التي مرت بهذا الراوي، وفيه ايضا الحوار الموحي، الذي يتميز بالتركيز والتكثيف وقوة التعبير، وفيه المعالجة الفنية والتصوير الخارجي والوصف واستبطان المشاعر والاحاسيس، كما فيه رؤية للحياة وموقف منها، وفيه استحضار الماضي، واستخدام الذاكرة، وفيه تصوير للاحلام والكوابيس والهواجس، واستخدام تقنية تيار الشعور او تيار الوعي، ومحاولة الوصول الى ما هو خلف الوعي، وفيه اقوى من هذا الصراع.
والصراع هنا ينبثق من طبيعة الموضوع الذي يعالجه النص، وهو اقوى صراع يواجه البشر، اي الصراع بين الحياة والموت. ثم فيه، بعد هذا وقبله، عنصر اساسي لا غنى عنه في أي ابداع أدبي سردي بالذات، هو قوة الجاذبية في أسلوب الكاتب وقدرته على السيطرة تماما على القارئ، بحيث يجعله يركض لاهثا مع السطور، مشدودا الى ما يقرأ، لا يريد ان يترك الكتاب حتى يكمله، كما حدث معي، فقد كانت قراءة هذا النص تجربة مثيرة مشوقة، ممتعة مدهشة، اذ لم اشعر ولو للحظة واحدة، بما اشعر به عادة مع كثير من الاعمال الادبية، عندما تحصل تلك المطبات او مناطق الضجر والضيق، التي قد نجتازها احيانا الى مناطق اكثر تشويقا واثارة، بعد ان نصبر قليلا على استطراد أو تزيد في الوصف، ولكنني مع هذا العمل، لم اصادف اطلاقا هذه اللحظات التي يتسلل اليها شيء من البطء والوهن في السرد، مسألة اخرى اشعل جذوتها في نفسي هذا العمل الابداعي الجميل، هي الاثارة الفكرية، فعلاوة على متعة السرد والتشويق والاداء اللغوي الراقي، فان هناك متعة الأفكار والرؤى التي أهتم الكاتب بمعالجتها من دون ان تكون عبئا على النص وانما جزء من نسيجه تتخلل من دون اقحام او افتعال مجرى الاحداث وحياة الشخصيات.
٭ كاتب ليبي
احمد ابراهيم الفقيه