ظهرت في الأجيال الحالية الشابة بموريتانيا حالة "تمرد" على الكثير من العادات الأصيلة في الشعب الموريتاني أو التخفيف من التحلى ببعضها لدى الشباب،ومن العادات التي أصبح شباب اليوم لا يوليها أهمية كبيرة عادة "السحوة"حيث أن هذه العادة خفت حدة التمسك بها كثيرا لدى الشباب في الوسط الحضري على وجه الخصوص.
صحيح أن "الحياء من الإيمان" ولكن المبالغة في الحياء لدرجة التغاضي عن المخاطر أو قطع الرحم غير مطلوب شرعا ويخل بتوازن العلاقات الاجتماعية ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وقد ولد تمسك الأجيال الكبيرة بهذه العادة واعتبار الشباب أنها متقادمة شرخا في تعامل مختلف الأجيال بالمجتمع الموريتاني مما نجمت عنه قطيعة بين الجيلين(الشباب +الكبار)المفترض فيها العيش بتكامل واستفادة كل منهما من الآخر.
ويعمل المجتمع الموريتاني على العزل اجتماعيا لمن لا يلتزم بهذه العادة ويعتبر خارجا عن عرف المجتمع .
ظاهرة "السحوة" في المجتمع الموريتاني" بين جيلين في التحقيق التالي.
الفرق بين "السحوة" والحياء
ظاهرة السحوة يتميز المجتمع الموريتاني من بين شعوب العالم . وتأخذ هذه الظاهرة أبعادا تاريخية تجعلها من أقوى الظواهر الاجتماعية التي لا يمكن التخلص منها بشكل جذري.
و"السحوة "عادات وتقاليد لاجذور لها في المجتمع العربي الإسلامي وهي ليست " الحياء" فالحياء يختلف عن "السحوة" اختلافا تاما ولا علاقة لها بالدين الإسلامي يقول الدكتور محمد الأمين ولد محمد موسى الباحث الاجتماعي " السحوة خارج الأخلاق الإسلامية فلا علاقة لها بالدين فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدخل على ابنته وزوجها وكان يتناول الطعام مع علي كرم الله وجهه وكان علي يحمل أبناءه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام".
رأي الشباب في "السحوة"
التقينا مجموعة من الشباب وسألناهم عن رأيهم في هذه الظاهرة فكانت ردودهم على النجو التالي:
أحمد30 سنة طالب جامعي يؤكد أن ظاهرة السحوة هي من العادات التي كان الكبار يتخذونها وسيلة للسيطرة على حرية الشباب خاصة في الريف.
عيشة26 عاما، تقول "أعتقد أن السحوة ابتكرت لقمع الشباب وتدمير حياتهم وهي لم تعد تناسب العصر فكيف يمكن منع زوجة من ذكر اسم زوجها أو ارضاع ابنها بحضور اصهارها وما هو مبرر منعي من سماع الموسيقى مثلا؟
موسى ولد سيدي أستاذ يؤكد"السحوة عادة سيئة تحولت على مر السنين إلى مرض نفسي. وتشكل اليوم أحد عوامل التفكك بين الأسر وحتى الزيجات وهي لا تخدم الهيكل الداخلي للمجتمع كمؤسسة تتجسد من خلالها قيم الوحدة والتضامن. لذلك ينبغي على المفكرين تنوير الجمهور من أجل التغلب على عادة لم تعد مبررة في وقتنا الحالي عصر العولمة والانفتاح".
زينب 30سنة طالبة وربة بيت تقول"أعتقد أن ظاهرة "السحوة" هي آلية لقمع حرية الشباب من طرف الكبار قديما وهي لم تعد تصلح لعصرنا حيث الانفتاح والعلاقات المتشابكة ولكن يجب فقط ان نبقى على الحياء فهو المطلوب أما "السحوة" فهي معول هدم يحث شرخا كبيرا على مرور الأيام بين الكبار والشباب ولا مبرر لوجودها في عصرنا.
رأي كبار السن في "السحوة"
التقينا مجموعة من كبار السن فسألناهم عن هذه الظاهرة فأكدوا أنها نوع من الحياء وهي ضرورية لتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع الذي كان يسكن في بيئة واحدة بدوية فيها خيام متناثرة وأهله في مكان واحد مفتوح،كما أن هذه الظاهرة كانت تساعد على تعليم الشباب توقير الكبار فمثلا لا يمكن لشاب أن يمر من أمام كبير أو يتحدث أمامه في مواضيع لها علاقة بالمرأة ولا يدخن ولا يلبس ثيابه الداخلية ولا يدخل على مجموعة من النساء ولا الرجال الأكبر منه سنا.
ويضيفون لقد ساهم ظهور العولمة وتمرد الشباب على هذه العادة الحميدة وظهر شرخ في العلاقات بين الأجيال وعدم تنظيم في العلاقات بينهما واحتقار واضح لكبار السن لدى بعض شباب المدينة في مجتمعنا ولم نعد نميز في بعض الحالات بين الكبير والصغير.
وبالنسبة لما يتعلق بالمرأة فإن الظاهرة تساعدها على مزيد من الحياء والعفة وعلى حسن تربية أبنائها والحفاظ على علاقات طيبة في محيطها العائلي (الأصهار) وهو ما بات مهدد التماسك المجتمع وتبرره نسبة الطلاق العالية التي يعرفها المجتمع حاليا.
مظاهر من" السحوة" بموريتانيا
تظهر "السحوة" في جميع أشكال الحياة الاجتماعية فنجدها في علاقة الأبناء بآبائهم وتدخل في علاقة البنت وأمها وفي علاقة الزوجة بزوجها وعلاقة الرجل بأصهاره والمرأة بأصهارها وعلاقة الأم بأبنائها الصغار وعلاقة الرجل بصهره .كما تدخل في مظاهر الفرحة والحزن على حد سواء فلا تستطيع المرأة مثلا أن تفرح أمام المجتمع بزوجها وكذلك لا تستطيع أن تحزن لفراقه بأي شكل من الأشكال .
وتتناقض هذه السلبيات كلما اتجهنا للحياة الحضرية وتتضاعف إذا اتجهنا إلى المجتمع البدوي أو القروي فنجد الزوجة بالذات لا تستطيع اظهار عواطفها ولا حتى نقاش امورها الأسرية مع زوجها . وبالتالي فلا عجب إذا كانت تزف ليلة العرس وهي تذرف الدموع . ومن العيب أن تشاهد وهي تبتسم وهذا ينعكس على الحياة الزوجية وعلى درجة الصراحة بين الزوجين.
ويلزم الوالدان بتربية أبنائهما على احترام عدم الإخلال بأي من مقتضيات "السحوة "الصارمة، وتتعرض البنت التي تخل بها لكثير من الانتقادات، كما أنها تبقى أحيانا كثيرة معرضة للبوار والعنوسة, ومادة للتندر والنكات بين الأهالي والمحيط.
ومن مظاهر"السحوة" أنه على الزوجة أن لا تبدي فرحتها، ولا تظهر زينتها ومفاتنها طيلة أيام العرس، وألا تذكر اسم زوجها ولا اسم أبيه أو أسرته طيلة الزواج ولا بعده، ولها عوضا عن ذلك أن تكني عن اسم شريك حياتها بضمير الغائب "هو"، أو "الرجل"، أو نحوه من الكنايات غير المباشرة
وعلى الزوجين أن لا يظهرا علاقتهما أمام الناس، ولا يبديا عمق روابطهما، ولا يسيرا مترافقين إلا لضرورة قصوى، دون أن يصل الأمر –تحت أي ظرف- إلى رؤية كبار السن والوالدين لهما.
كما تمنع عادة "السحوة" على الأبوين مداعبة أطفالهما بحضور غيرهما، أو إظهار المودة والمحبة لهم، وإن حصل أن اقترب الطفل من أبيه أو أمه في وجود بعض كبار السن فإن عليه أن يدفعه بقوة، ويمنعه من الاقتراب منه .
رأي علم الاجتماع
ويقول الخبير الاجتماعي محمد محمود ولد سيد يحيى أن ظاهرة "السحوة" التي يسميها باحثو الأنثروبولوجيا بظاهرة التحاشي توجد بقوة في المجتمع الموريتاني وعدد من المجتمعات الأفريقية, وهي تعني تجنب الناس الحديث في الموضوعات العاطفية والجنسية إذا كانوا من أعمار مختلفة.
وبيّن أن الحرج والكلفة يزدادان بين الرجل ووالد زوجته إلى حد أن أعراف بعض المناطق تقتضي أن لا يلتقيا ولا يتحدثا أبدا، مشيرا إلى أن "السحوة" تظهر بشكل أقوى عندما يستهجن المجتمع أن تسمي الزوجة زوجها باسمه علنا أمام الآخرين، أو أن تبدي عواطفها تجاهه أو تجاه أطفالها على الملأ, وهي عادات تضرب بجذورها في القدم عندما كانت "السحوة" تنظم علاقات مجتمع "الخيمة" المفتوحة الذي لا جدران له, ولئن بدأت تخف أحيانا في المدن فإنها ما زالت رمزا لاحترام الأعراف ويبررها المجتمع بأنها من الحياء الديني .
وتصل حدة الظاهرة حسب الباحث ولد سيد يحي إلى امتناع بعض النساء الحوامل من مراجعة الطبيب، أو إشعار أهلهن وذويهن بأنهن حوامل، لكنه أكد أنها في الوقت ذاته تحمل فوائد كثيرة(تنظيم للعلاقات داخل المجتمع) كأن تفرض على الصغير الامتناع عن التدخين أمام من يكبرونه، داعيا إلى المحافظة عليها لأن جدرانها التي تضايقنا أحيانا ستظل تشكل ضمانا نفسيا واجتماعيا مهما في عصر يتحول بسرعة من الستر إلى العري، ومن التراحم إلى الأنانية المادية .
وأضاف مثلت"السحوة" علاقات كثيفة في المجتمعات التقليدية ورغم أن البعض اليوم ينتقد الآثار السلبية "للسحوة" على النساء اللواتي لا يتجرأن على متابعة الفحوصات الضرورية للحمل، أو حتى إرضاع الطفل والتعبير عن الحنان الأبوي تجاهه، إلا أنني أردت أن أبيّن أن هذه العادات ليست متزمتة في المجتمع القديم حيث يسمح للشباب في الأعراس بأحاديث قد تبدو إباحية وذلك كنوع من التثقيف في مجال الحياة الزوجية للزوجين الجديدين في مجتمع تقليدي .
وطبعا كان من الضروري أن نعرف أننا بحاجة إلى ثقافة عصرية للحياة بين الزوجين، ولكن التضايق من جدران "السحوة" التي بدأت تتهاوى تحت تأثير الفردية والجدران الإسمنتية، هذا التضايق ليس مبررا دائما لأن "للسحوة" جوانبها الإيجابية عندما تحمي حياة الأسر الجديدة من تدخل كبار السن في شؤونها بشكل صريح ومباشر، كما تمنع ولو مؤقتا من التدخين أمام الكبار, فللظواهر الاجتماعية وظائفها المتعددة التي تختلف أحيانا عن المبررات العلنية التي يقدمها المجتمع لتسويغها.
وكالة أنباء اطلس