
عبد الرحمن ولد حمودي
رئيس حزب من أجل موريتانيا قوية
تعتبر المشاركة السياسية أحد الأعمدة المركزية للحقوق المدنية والسياسية، لأنها تحدد درجة حضور المواطن في المجال العام وقدرته على التأثير في القرارات التي ترسم ملامح حياته الفردية والجماعية. وإذا كان كثير من الأدبيات الكلاسيكية في علم السياسة يحصر المشاركة في التصويت والترشح، فإن التطور اللاحق لمفهومها أظهر أنها أبعد من ذلك بكثير؛ فهي تشمل الانخراط في الأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية والمشاركة في النقاش العمومي عبر الإعلام والفضاء الرقمي والمبادرة بالاحتجاج السلمي والمساهمة في مراقبة السلطة ومساءلتها. وبهذا المعنى تتحول المشاركة إلى مقياس لدرجة تحول الفرد من رعية إلى مواطن، ولقدرة النظام السياسي على قبول رقابة المجتمع.
من الناحية النظرية يمكن النظر إلى المشاركة السياسية بوصفها حقا مركبا تتقاطع فيه ثلاثة أبعاد كبرى أولها البعد القانوني المؤسسي، أي وجود نصوص دستورية وتشريعية تعترف للمواطنين بحقوقهم في التنظيم والتعبير والاقتراع والترشح وتوفر لهم مؤسسات منتخبة ذات صلاحيات حقيقية. ثانيها البعد الاجتماعي الاقتصادي، لأن المواطن الذي يعيش تحت ضغط الفقر والتهميش والأمية لا يمتلك الشروط الضرورية لممارسة حقه بحرية ووعي؛ فالمشاركة تفترض حدا أدنى من التعليم ومن الاستقلال المادي ومن الاطمئنان الأمني. وثالثها البعد الثقافي الإدراكي، المتعلق بتمثلات الناس للسياسة نفسها، أي هل يرونها مجالا مشروعا للعمل العام أم فضاء محفوفا بالمخاطر ؟ وهل يعتقدون أن صوتهم يمكن أن يغير شيئا، أم أنهم مقتنعون بأن موازين القوة ثابتة لا تتبدل؟
في الديمقراطيات المستقرة تتقاطع هذه الأبعاد الثلاثة في اتجاه تعزيز المشاركة، فتتطور الممارسات تدريجيا نحو توسيع دوائر الحق في التنظيم والتعبير وتحسين شروط المنافسة الانتخابية وتقليص الفوارق بين المواطنين في النفاذ إلى القرار. أما في دول المنطقة الرمادية الخارجة من السلطوية، مثل موريتانيا، فإن المسألة تعتبر أكثر تعقيدا؛ حيث يمكن أن توجد نصوص متقدمة نسبيا وانتخابات دورية وتعددية حزبية، من دون أن ينعكس ذلك في مشاركة فعلية قوية أو في تداول حقيقي على السلطة. وفي هذه الحالة تصبح مهمة التحليل هي الكشف عن العوائق التي تقف بين المواطن وبين استعماله الفعلي لحقوقه السياسية، رغم ما يبدو في الواجهة من مؤشرات شكلية على الانفتاح.
في السياق الموريتاني، تتداخل العوائق البنيوية مع القانونية ومع ممارسات السلطة ومع أزمات الحقل الحزبي نفسه، لتنتج وضعا يمكن وصفه بأنه مشاركة سياسية محدودة الفاعلية، محاطة بسقف منخفض من التسامح مع المعارضة ومحكومة بتوازنات اجتماعية واقتصادية تجعل حق الدخول إلى المجال السياسي متاحا نظريا للجميع، لكنه في الواقع أقرب إلى الامتياز المراقب منه إلى الحق غير القابل للتصرف.
أول هذه العوائق يتمثل في البنية الاجتماعية–الاقتصادية للمجتمع؛ فارتفاع مستويات الفقر والهشاشة واتساع دوائر الاقتصاد غير المصنف واستمرار التفاوتات الحادة بين المركز والأطراف وبين الفئات والشرائح، كلها عوامل تجعل جزء كبيرا من المواطنين في وضعية تبعية مادية ورمزية لشبكات النفوذ التقليدية والحديثة. وفي مثل هذه الظروف يغدو الصوت الانتخابي قابلا للمقايضة وتتحول العلاقة بين الناخب والمنتخب إلى امتداد لعلاقة الزبونية، حيث يبحث الأول عن حماية أو خدمة أو وساطة بينما يبحث الثاني عن كتلة من الأصوات تضمن له موقعا في الدولة. وتزيد الأمية التعليمية ومعها الأمية السياسية، من حدة هذه الأزمة؛ إذ يجد المواطن صعوبة في فهم صلاحيات المؤسسات وفي التمييز بين البرامج وفي ربط اختياره الانتخابي بتقييم موضوعي للأداء العمومي، مما يفتح الباب واسعا أمام التعبئة بواسطة الانتماءات الضيقة أو الوعود الظرفية.
يترسخ هذا الوضع بفعل استمرار ثقل البنى التقليدية في المجال السياسي؛ فالقبيلة والروابط الجهوية والعلاقات مع الوجهاء ، ما تزال تلعب دورا كبيرا في تحديد اتجاهات التصويت وفي صناعة النخب المنتخبة. فكثير من المرشحين يأتون إلى السياسة من بوابة رأس مال اجتماعي تراكم في فضاء العلاقات التقليدية أكثر مما يأتون إليها من بوابة البرامج والرؤى. وذلك ما يعني أن المواطنة السياسية الفردية تبقى، في كثير من الأحيان، مضمورة داخل منطق الجماعة، الأمر الذي يحد من قدرة الفئات الهشة – من نساء وشباب ومهمشين تاريخيا – على التعبير الحر عن مصالحها من خلال اختيارات مستقلة.
يتعلق ثاني العوائق بالإطار المؤسسي والقانوني المنظم للحياة السياسية؛ فالنظام الدستوري الموريتاني يمنح السلطة التنفيذية، ورئيس الجمهورية على وجه الخصوص، وزنا حاسما في هندسة السلطة مقابل برلمان ذي صلاحيات محدودة عمليا ومجالس بلدية وجهوية تعاني من ضعف الإمكانات المالية والبشرية ومن تبعية كبيرة للإدارة المركزية. وفي ظل هذا التمركز يصبح الأثر الفعلي للمشاركة الانتخابية محدودا؛ إذ يجد المواطن أن اختياراته في الصندوق لا تنعكس بالقدر الكافي على السياسات العمومية التي تمس حياته اليومية، مما يضعف الحافز على الانخراط ويغذي الشعور بأن اللعبة محكومة سلفا من أعلى.
إلى جانب ذلك، يطرح النظام الانتخابي المعتمد وتقسيم الدوائر الانتخابية إشكالات حقيقية؛ فعدم التوازن بين الكثافة السكانية وحجم التمثيل في بعض الدوائر، وعدم مواكبة التحولات الديمغرافية والحضرية بتعديلات عادلة، يؤديان إلى تفاوت في وزن الصوت بين المواطنين، حيث يكون لصوت الناخب في دائرة ريفية صغيرة أثر أكبر بكثير من صوت الناخب في حي حضري مكتظ. كما أن تعدد الأنماط الانتخابية وتكرار تغييرها، في غياب جهد اتصالي وتثقيفي واسع، يخلق حالة من الغموض لدى المواطن تضعف قدرته على إدراك معنى صوته في كل استحقاق.
ضمن هذا الإطار القانوني تأتي مسألة تنظيم الأحزاب السياسية بوصفها نقطة حساسة في ضبط المشاركة؛ فعوض أن يتحول قانون الأحزاب إلى أداة لتوسيع هامش الحرية التنظيمية وضمان الحد الأدنى من الجدية والشفافية، عاش البلد خلال الحكم الحالي وضعا مركبا: قانون سابق تعرض للتجميد بكل بساطة، ثم قانون جديد بالغ كثيرا في تشديد شروط الترخيص. وتجلى هذا التشدد في جعل تأسيس الأحزاب أكثر صعوبة عبر مضاعفة الشروط المطلوبة للترخيص وتعقيد متطلبات الحضور الجغرافي مع جعل سلطة القرار الفعلية بيد وزارة الداخلية. والنتيجة أن الحق في التنظيم الحزبي، وهو من صميم الحقوق المدنية والسياسية، أصبح مشروطا بجملة من القيود التي تفتح الباب أمام التحكم الإداري والسياسي في من يدخل إلى الحقل الحزبي ومن يستبعد منه، بدل أن تكون المعايير موضوعية ومعلنة ومحمية ضد الاستخدام الانتقائي.
يرتبط العائق الثالث بطريقة ممارسة السلطة للملف السياسي؛ فاستعمال أدوات الدولة – من إدارة وإعلام عمومي وبرامج اجتماعية – في سياق المنافسة الانتخابية يقوض مبدأ تكافؤ الفرص بين الفاعلين، ويكرس تفوقا بنيويا للمعسكر الحاكم. ويمثل ضعف استقلالية اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، سواء على مستوى تشكيلها أو على مستوى وسائلها المادية والبشرية، مسوغا لإضعاف ثقة جزء من الطبقة السياسية والرأي العام في نزاهة العمليات الانتخابية، لاسيما حين ترافقها شكاوى متكررة من تدخلات الإدارة المحلية أو من خروقات في تمويل الحملات أو في تزوير النتائج. كما أن محدودية فعالية آليات الطعن والنزاعات الانتخابية، سواء أمام القضاء العادي أو أمام المجلس الدستوري، تجعل كثيرا من الاعتراضات تتخذ مسارات سياسية وإعلامية بدل أن يتم حسمها داخل قنوات قانونية موثوقة.
وتشكل إدارة الاحتجاج السياسي هي الأخرى مؤشرا على درجة انفتاح النظام على المشاركة؛ فحين توضع قيود مشددة على حق التظاهر السلمي أو تتم مواجهة بعض التحركات السياسية والاجتماعية بوسائل أمنية قبل استنفاد الحلول الحوارية، تصل إلى المواطن رسالة مفادها أن المجال العمومي مراقَب إلى حد كبير وأن كلفة التعبير عن الرأي قد تكون مرتفعة. وفي مثل هذا السياق يميل جزء من المجتمع إلى الانسحاب والصمت بينما يميل جزء آخر إلى البحث عن أشكال تعبير خارج الأطر القانونية، مما يزيد من هشاشة النظام السياسي بدل أن يعزز مناعته.
ويخص العائق الرابع الحقل الحزبي نفسه؛ حيث أن الأحزاب، حتى حين تتاح لها فرص العمل، لا تقدم دائما العرض السياسي القادر على جذب المواطنين إلى المشاركة. فكثير منها يعاني من شخصنة القرار ومن ضعف الديمقراطية الداخلية ومن غياب التداول الحقيقي على القيادة ومن ارتهان مصادر تمويله لشبكات مصالح تعرضه للتأثير الخارجي على خياراته. وينعكس ذلك في ضعف حضوره اليومي في الأحياء والقرى وفي انقطاعه عن الفئات الشابة وفي عجزه عن تجديد لغته واستيعاب التحولات الاجتماعية والثقافية. ويجد المواطن الذي يراقب هذا المشهد صعوبة في التميز بين حزب وآخر على أساس البرامج ويشعر في أحيان كثيرة أن القضية تتعلق بتنافس بين نخب محدودة على مواقع في السلطة، أكثر مما تتعلق بصراع بين مشاريع بديلة لإدارة الدولة. وهذا الانطباع يغذي العزوف ويضعف الاستعداد لتحمل كلفة الانخراط في العمل الحزبي.
إلى جانب ذلك، تظل مشاركة النساء والشباب والفئات التي تعرضت تاريخيا للتهميش أقل بكثير من وزنها الديمغرافي والاجتماعي. صحيح أن اعتماد بعض آليات الحصص ساعد على تحسين التمثيل النسبي لفئات معينة، لكن استمرار منطق التعيين داخل اللوائح وغياب مسارات واضحة لصعود الكفاءات الشابة، يجعل هذا التحسن محدود الأثر على بنية القرار داخل الأحزاب والمؤسسات المنتخبة. وحين يشعر الشباب، على وجه الخصوص، بأن دورهم محصور في التعبئة خلال الحملات وبأن المواقع المتقدمة مغلقة في وجههم، يتولد لديهم شعور بأن السياسة لا تعنيهم إلا بوصفهم جمهورا مستهدفا ليسوا شركاء في صناعة القرار.
أما العائق الخامس فهو إدراكي–ثقافي في جوهره، يتعلق بالذاكرة السياسية للمجتمع وبالصورة المتراكمة عن الدولة والعمل العام؛ فالتجربة الموريتانية عرفت عقودا من الانقلابات والانتقالات غير المكتملة مما ترك أثرا عميقا في وعي الناس بمحدودية جدوى صناديق الاقتراع في تغيير موازين القوة. وهذا الإرث، حين تضاف إليه الخطابات التي تشيطن السياسة أو تربطها بالفساد والتنازع، والأمثلة المتكررة على تحويل المناصب العمومية إلى امتيازات خاصة، يدفع كثيرين إلى اعتبار الابتعاد عن السياسة خيارا أخلاقيا أو حذرا أمنيا. وفي مثل هذه البيئة تصبح المشاركة السياسية في نظر جزء واسع من المواطنين، مصدر خطر محتمل أو على الأقل مضيعة للوقت، بينما يجري النظر إلى الهجرة أو الانسحاب إلى دائرة العيش الفردي، بوصفهما خيارين أكثر واقعية.
وللأسف فإن هذه العوائق، على تباعد مستوياتها، تتقاطع في نقطة مركزية واحدة هي تضييق الممر الذي يفترض أن يربط بين المواطن وبين السلطة السياسية. فمن جهة يقف الإطار القانوني والمؤسسي بما فيه من اختلالات في توزيع السلطة ومن قيود على التنظيم والاحتجاج ومن قصور في ضمان شفافية المنافسة؛ ومن جهة أخرى تقف الممارسات الفعلية التي تستثمر أدوات الدولة في ضبط الحقل السياسي أكثر مما تستثمرها في تحصين حق المجتمع في مراقبة السلطة؛ ومن جهة ثالثة تقف أزمة الحقل الحزبي نفسه وعجزه عن تجديد عرضه ومن جهة رابعة تقف البنية الاجتماعية–الاقتصادية والثقافية التي تجعل كثيرا من المواطنين في وضعية هشاشة تضعف حريتهم في الاختيار.
وبالطبع فإن مواجهة هذا الواقع لا يمكن أن تتم عبر إصلاح جزئي معزول، وإنما عبر مقاربة تراكمية تتدرج من المستوى القانوني إلى المستوى المؤسسي ثم إلى المستوى المجتمعي. فعلى المستوى القانوني، يقتضي الأمر إعادة النظر في المنظومة المنظمة للأحزاب والانتخابات والتجمعات العامة بما يعيد الاعتبار لحرية التنظيم والمنافسة السلمية ويقلص من السلطة التقديرية للإدارة ويضمن قدرا أعلى من المساواة في وزن الأصوات وفي شروط الترشح. وعلى المستوى المؤسسي، يتطلب الأمر تعزيز استقلالية الهيئات المشرفة على الانتخابات وتوسيع صلاحيات المؤسسات المنتخبة وضمان مسارات فعالة للمنازعات الانتخابية. وعلى المستوى المجتمعي، لا بد من استثمار طويل المدى في التربية المدنية وتعزيز ثقافة الحقوق وتشجيع أشكال المشاركة المتنوعة، بما يفتح أمام الأجيال الصاعدة قنوات جديدة للانخراط في الشأن العام.

.jpg)


