لا يكف العقل البشري عن التساؤل، ولا تكف التساؤلات الناتجة بدورها عن إثارة العقل البشري لطرح المزيد من التساؤلات. إن هذه أزليةٌ وأبديّةٌ من الأزليات والأبديّات التي كانت وستظل السبب الرئيسي لنشوء وتطور الفلسفة – وبالتالي الإنسان – منذ الزمن الماقبل أفلاطوني مرورا بزمن الفلسفات الواقعية والوجودية وفلسفة العلم والتجربة والحداثة وما بعد الحداثة إلى ما لا نعلم .
لقد كان أفلاطون في محاوراته الشهيرة، يطرح الأسئلة أكثر مما يُجيب، لكنّه على أي حال أسَّسَ بهذه المحاورات والتساؤلات تأسيسا أبديا ووضع أحجار الأساسِ للفلسفة الحديثة التي بين أيدينا في هذا العصر وفي كل عصر. وكان الفيلسوف الكبير لا يُجيبُ على أي نوع من الأسئلة إلا تلك التي يكون مضطرا للإجابة عليها، والاضطرار هنا لا يعني الوقوع في الإحراج مثلا، بالعكس فلقد كان يؤسس لفلسفة عظيمة بهذا الأسلوب، ولكنّه كان يضطر للإجابة عليها ربّما لإسكات الأفواه التي تحتج – كالسفسطائيين ـ أو لأن إجابات تلك الأسئلة تعد مفاتيح لطرح المزيد من الأسئلة. لذلك من اللائق ربما أن نسمي الأسئلة التي أجاب عنها أفلاطون بـ«الأسئلة المفتاحية» مثل، ما هي العدالة؟ الأخلاق؟ من الأجدر بالقيادة؟ وغيرها إلى أن أصبح من ترفِ الإنسان أن يتساءلَ بعد ذلك عن كلِّ شيء.
لذلك، قد تجد تساؤلا ما يثيرُ لديك الرغبة في تفسيره والوقوف عند بواعثه وأسبابه أكثر من الإجابة عليه. هنا تكمن عظمة الفلسفة وعظمة الإنسان، الذي ابتدع واحترف هذه الفلسفة، هذا الإنسان الذي يدعو إلى التحقيق في كل شيء وعدم وضع الأحكام والمسلمات ببداهة وتسرّع، بل بإقراره عدم المعرفةِ أولا، ليبدأ بعد ذلك رحلة المعرفة. لقد قال الفيلسوف اليوناني الكبير سقراط عبارة تمثل هذا الإنسان العظيم، قال «أنا أعرف شيئا واحدا فقط، وهو أنني لا أعرف أي شيء».
ومن الجدير بالتنويه أن هناك فرقا بين السؤال والتساؤل. كلاهما لهما أدوات الاستفهام نفسها، ولكن السؤال هو الذي يمكن الإجابة عليه بإجابة محددة وينتهي الأمر. أما التساؤل، فهو الذي لا يمكن الإجابة عليه بإجابة محددة ولا ينتهي الأمر عندها، بل تحتاج الإجابة إلى استدعاء عدد آخر من الأسئلة والتساؤلات التي تخدم في الإجابة وهكذا.
أنا أفترضُ أن فلسفةَ الإنسانِ بدأت بتساؤل واحد أوّليٍّ وفُتحت من بعده خزائن الأسئلة المُودعة في الإنسان والطبيعة، وقد تكون عجلتها سارت ببطء شديد جدا في الزمان الماقبل أفلاطوني، ولكنها تسارعت بعد أفلاطون بشكل جنوني، ثم كُبحت قليلا في العصور الوسطى، ثم تسارعت بشكل لا يمكن السيطرة عليه منذ أربعة قرون إلى اليوم. ولكنّ هذه العجلة لم تتوقف إطلاقا ولن تتوقف، كما نستعير عبارة الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لينكولن الذي يقول «أنا أسير ببطء لكنّني لا أسير إلى الخلف أبدا».
لو طرحنا قضية (التساؤل الأول) على التطويريين» Evolutionists» ، فكما ذكر تشارلز داروين عام 1859 في كتابه «أصل الأنواع» أن جميع أنواع الكائنات الحية انحدرت من سلف مشترك واحد « last universal ancestor » وبالانتخاب الطبيعي «Natural selection» والطفرات «Mutations» نشأت الأنواع الحية واختلفت وتطورت، وأن الإنسان استطاع بعد مرحلة من التطور أن يكون عاقلا، فبدأ يسأل ويتساءل. للذين يؤمنون بذلك، فإنه من البديهي جدا افتراض أن فلسفة الإنسان العاقل نشأت بعدَ تساؤلٍ أوّليّ .
أما إذا طرحناه على الخلقيين « Creationists» والذين يؤمنون بمبدأ التصميم الذكي «Intelligent design» أو حتى أولئك الذين يؤمنون بالتطور الإلهي Theistic Evolution فلا شيء يختلف معهم، فهم يؤمنون بأنّ الإنسان خُلق على هيئته الحالية ثمّ سعى في الأرض يطرق أبواب المعرفة في كل زمان ومكان، وعلى هذه المذاهب فإنه من السهل جدا افتراض أن أوّل إنسانٍ جاءَ إلى الأرض كان يسأل ويطلب المعرفة، لذلك، كانَ هناكَ تساؤل أوّليّ.
على أيّ حالٍ، لم أكن أريدُ أن أٌثبتَ أن أصلَ الفلسفةِ سؤال أوّلي واحدٌ استدعت إجابته طرح المزيد من الأسئلة، ولا أريدُ كذلكَ أنْ أسْألَ عن ماهيّة ذلك السؤال الذي ربما يكون مرتبطا بالحالة الفسيولوجية والنفسية للإنسان الأول ـ سواء كان من أصل سابق فتطور واستطاع أن يسأل، أو كان من خلق إلهيّ مباشر فبدأ يسأل – لأنّه ربما يكون سؤالا عاديا مثل إحساس الإنسان الأول بغرابة المكان فكان السؤال «لماذا أنا هنا؟ « أو أنّه كان جائعا فكان السؤال «ماذا أفعل؟» أو كان الجو باردا فكان السؤال «أين أذهب» وغيرها، إلى أن أصبح كما أسلفنا أنه صار من ترفِ الإنسان أن يتساءلَ بعد ذلك عن كلِّ شيء.
دعونا نطرحُ الآن هذا التساؤل.. ما السبب الذي دفع الإنسان إلى التساؤل لأول مرة وطلب المعرفة؟ بمعنى آخر، ما هو المثير الأول أو المحفّز الأول الذي جعل الإنسان يتساءل؟ ولماذا حُقَّ على الإنسانِ أن يدخُلَ رحلة أو سلسلة من التساؤلات اللانهائية؟
فيُجيب الداروينيون التطوّريونَ أنّ ذلك كانَ سببه تطوّرا كيميائيا دماغيا سمح للكائن الحي المتطوّر بأن يُصبحَ قادرا على التساؤل، فنُردِفُ التساؤلَ الثاني عليهم: ما هي هذه النقطة الحرجة الفاصلة أو التطور الكيميائي الدماغي الفاصل بينَ أن يعرفَ الكائنُ الحي وأن لا يعرف؟
ويجيب الخلقيونَ أنّها الغريزة، وأنَّ الإنسانَ مفطورٌ على أنْ يتساءل. فنُردِفُ التساؤُلَ الثالث عليهم:
لماذا تشذ غريزة التساؤل عن القاعدة التي تقول بأنّ جميع أفراد النوع الواحد يتشابهون في غرائزهم..
ونرى أن الإنسانَ العاقل والمجنون متشابهيْن في جميع غرائزهما الأخرى، كالأكل والنوم والخوف باستثناءِ غريزة التساؤل؟
لا نريد إجابة سريعة على هذا التساؤل.. فهنا المساحة لانهائية لطرح الإجابات كلها..
٭ كاتب فلسطيني
حسن عصفور