مة أشياء لا يعرفها العامة في العالم العربي، كأن يسألونك مثلا ما فائدة الأدب والشعر؟ ولكنهم يحبون إطلالتك على الفضائيات العربية لأنك شاعر أو كاتب بدون أن يقرأوا لك كلمة واحدة، أحيانا يحدث العكس، يقدمك أحد أصدقائك لشخص ما على أنك الشاعر المشهور فلان، فتبرق علامات الاستفهام على وجهه ما يجعل وجهك يتلبّد بالغيوم فجأة…
أنت مجهول تماما وصديقك مصرُّ أنك مشهور… تمر اللحظات ثقيلة رغم قِلّتها، قد تشعر فيها بالألم، ويشعر صديقك بالإحراج وصديقه بالتوتر… وقد تشعر بعدها أنك «لا شيء»، لكن هل هذه هي الحقيقة؟ هل صحيح أنت لا شيء؟
وكبداية مهمة أرجوكم أن تعودوا للتاريخ، فازدهار الأدب في أي مرحلة تاريخية لبلد ما تعني أن الأمة بخير، وإن كنتم تظنون أنه نوع من البذخ فهذا غير صحيح، فالإنسان يكتشف إنسانيته حين يجلس إلى كتاب ويقرأه في هدوء، يأخذ أنفاسه أولا من متاعب الرّكض خلف لقمة العيش وأشياء أخرى، ويجد من يجعله يحب نفسه، لأننا جميعا في خضم انشغالاتنا اليومية ننسى أن نحب حتى أنفسنا، وحده الكِتاب يجعلك تجلس إلى نفسك، ولهذا جاءت الرسالة السماوية الأخيرة في شكل كتاب، بأول كلمة تدعو الناس للقراءة «إقرأ» مع وصية نبوية رائعة «أطلب العلم ولو في الصين» ليس لأن الصين بعيدة، بل لأن العلم يطلب حتى عند أمم تختلف عنا تماما في الدين والثقافة وتفاصيل الحياة. ثمة أشياء أيضا لن يصدقها عقل الإنسان العادي الذي يظن أن الأدب «تافه» و»بلا قيمة» …لكن مع هذا سأخبركم مثلا عن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان الذي أنقذ الاقتصاد الأمريكي بسبب كتاب، وستندهشون جميعا إن عرفتم أن هذا الكتاب هو «مقدمة ابن خلدون» …
وأعرف سلفا أن البعض سيهزأ من هذه الفكرة لأن رونالد ريغان بدأ حياته ممثلا، وفي عهده حدثت فضائح كبرى مثل فضيحة « إيران غيت»، ودعمه القوي لإسرائيل، ولكن ما قدمه لأمريكا يعتبر جيدا، والأمريكيون يحبونه أكثر من غيره رغم اختلافات انتماءاتهم السياسية ذلك لأنه عرف كيف ينتصر لقيم وحضارة الأمريكيين، لكن لا أحد يعرف أن مرجعيته الثقافية بناها إبن خلدون في رأسه… وإن كان البعض يستسخفه لأنه ممثل، فإن التمثيل في الحقيقة هو الأدب بالصوت والصورة، والممثل في الحقيقة ليس أكثر من شخص مرتبط بقوة بالأدب، فبدون نصٍّ وقصّة لا يمكن للممثل أن يقدّم شيئا، ولا يمكنه أن يبلغ المرحلة الأجمل في حياته حين يفتن جمهوره ويتشبع بمحبته ويقطف ثمار عمله.
لن أحدثكم مطولا عن رونالد ريغان حتى لا أثير حساسية البعض، ولكني سأبقى في أمريكا، لأحدثكم عن شخص صنع مدينة ساحرة اسمها « ديزني لاند» ابتكرها رجل أمريكي بسيط كل همه أن يجعل بناته سعيدات ويشاركهن تلك السعادة، ففكّر في مكان يشبه القصص التي يقرأها لهن، لقد آمن بالأدب أولا، ثم حوّله إلى شيء ملموس.
ليس سهلا طبعا أن نحوّل الخيال إلى حقيقة، ولكنه فَعَلَ. واليوم لم نعد نتحدث عن والت ديزني كرجل أمريكي بسيط بل كمعجزة أمريكية قائمة على مقولات كالتي رددها هو نفسه ذات يوم «إذهب مع حلمك حتى النهاية…لا تتركه يفلت منك»..
في ديزني لاند نجد قصر الساندريلا، الساحرات الطيبات والشريرات، الثلجة البيضاء، الأمير الفاتن، الأقزام، بينوكيو، توم سوير، بيتر بان، آليس في بلاد العجائب وعددا كبيرا من القصص التي سحرتنا ونحن أطفال…
كل شيء أصبح ملموسا، بما في ذلك طفولتنا. ونحن في قلب مدن ديزني الساحرة يرجع بنا الزمن إلى الطفولة… وحين تنهمر علينا سيول من السعادة والفرح من كل صوب ندرك أن معجزة السفر عبر الزمن ممكنة…
هذه المؤسسة المنبثقة من الأدب منحت ملايين الوظائف للشباب وكبار السن أيضا ذوي الدخل القليل والمجهود الضعيف. وظائف في الغالب لا تعب يذكر فيها، أما مدخول هذه المدن فهو خيالي، ففي شهر واحد يتراوح متوسط أرباح كل مدينة حسب موقعها الجغرافي بين مليار ونصفالمليار وملياري دولار، أي ما يعادل أحيانا 18 مليار دولار سنويا، هذه الأرقام مرعبة حين نعرف أن بعض حكوماتنا مديونة بأرقام كهذه للدول الكبرى بسبب التسلح المجنون والحروب الطائفية الداخلية التي ازدادت حدة منذ تراجعت نسبة القراءة بين الناس عندنا.
نعم، يحدث أن يكون مقياس السلام والأمان والازدهار في الأمم مرتبطا بشكل وثيق بنسبة القراءة لدى شعوبها. فالمجتمعات التي لا تقرأ مجتمعات تفتقر أولا للغة الحوار، ذلك أن الأدب وحده يعلِّمنا كيف نتحدث، ونتحاور، ونفكر، ونتعلم. وحين تقلُّ قدرتنا على التحاور وتحليل الأمور كما حين نقرأ رواية نلجأ للعنف لأنه لغة من لا قدرة لهم على التعبير. وفي قاعدة مهمة في علم النّفس برزت مطلع القرن العشرين أسسها روباكين باسم «علم النفس المكتبي» وطورها علماء آخرون بعده مؤكدين أن قراءة القصص تهذب العواطف، وتنشط الذاكرة، وتحفز القدرات الإبداعية… ولأننا مجتمعات لا تثق في نفسها، سنتذكر مرة أخرى أن قرآننا جاء ليحثنا على القراءة فلماذا لم نفعل؟
السؤال المؤلم الذي لا جواب له عندي الآن، سأعوضه بسرد حكايات أخرى جميلة عن الأدب.
كأن أخبركم أن جبران خليل جبران لا يزال الكاتب العربي الأكثر مبيعا في العالم العربي رغم أنه توفي منذ أكثر من ثمانين عاما، وأنه ترك وصية لتحويل بيته إلى متحف، ومن مدخول متحفه تدفع أقساط المدارس لأبناء بلدته بْشَرّي من العائلات التي لا إمكانات مادية لها. أليس هذا قمّة في الإنسانية؟ لقد دمعت عيناي حين عرفت هذه المعلومة وأنا أزور بيته ذات يوم في بشري، وتأسفت لأن الكُتَّاب العرب في الغالب رغم نجاح أسماء كثيرة منهم، لم يفكروا في حياتهم الثانية بعد موتهم، هزمتهم الصراعات السياسية والقضايا الخاسرة التي زُجّت فيها المجتمعات العربية ففقدوا الثقة حتى في قدرة نصوصهم وأسمائهم التي تعبوا كثيرا ليجعلوها ساطعة في سماء الأدب.
وحتى في أيامنا البائسة هذه يمكن للأدب أن يكون هدية سماوية غير منتظرة، الكاتب الجزائري مفتي بشير يكتب على جداره على فيسبوك أنه حين تعب من شرح فوائد الأدب لصديقة غير مقتنعة بأهمية الأدب في حياة المجتمع، أخبرها أنه بفضل الأدب سافر إلى دبي وبيروت وباريس وعواصم أخرى، هنا فتحت الصبية فمها من الدهشة غير مصدقة، ولم تكتف بتصديقه، بل أحبت فكرة الكتابة في حدّ ذاتها. بهذا الصدق وهذه البساطة أوصل مفتي الفكرة لصبية من «عصر اللاّقراءة» فكثر هم الكُتّاب الذين ركبوا الطائرة لأول مرة وزاروا بلدانا حلموا بها فقط لأنهم كُتّاب…
حملوا قصصهم وأشعارهم وطاروا بها حول العالم، حملوا أوطانهم، قضاياهم، قلوبهم الممتلئة حبا وأحلاما وناضلوا مسالمين…
من القائل «ليس بطلا من يشعل حربا»؟
أليس رمز القضية الفلسطينية محمود درويش؟
و للحديث بقية إن شاء الله …!
٭ إعلامية وشاعرة بحرينية
بروين حبيب