الحق الثقافي، مثل كل الحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان، غير خاضع للمساومة. إنه مطلب لاتصاله بحق. لكن المطالبة بأي حق يمكن أن يتم وفق احترام الحق الثقافي المقابل له، لا بإلغائه لفرض هيمنة جديدة على من كان لهم الحق في فرض اختياراتهم على غيرهم في زمان سابق، وإلا صرنا أمام مقابلة حرمان بحرمان، واعتبرنا الدم لا يغسل إلا بالدم، وهذا ما يجري في وطننا العربي.
يتسع الحق الثقافي لكل ما يتصل بالإنسان في وجوده من قيم وشعائر ورموز تجسدت في الزمن للتعبير عن خصوصية في تدبير شؤون الحياة غير المادية. لا مجال للتمييز بين الحقوق الثقافية وغيرها من الحقوق الأخرى. فلكل منها شرعيتها ما دامت لا تتنافى مع مصالح الجميع، ولا تشكل عقبة أمام التطور الذي يخدم الإنسان.
منذ أن صار مفهوم «الإرهاب» مختزلا في الإسلام من خلال ممارسات «القاعدة» والاتجاهات المتطرفة، وكانت أحداث شتنبر النقطة التي أفاضت الكأس، صار «السنة» موضع شك واتهام. فهم رعاة الإرهاب ومغذوه. وهكذا ابتدأ التعميم والخلط. فالإسلام صار مختزلا في التطرف والإرهاب. ورغم استهداف «القاعدة» لدول إسلامية «سنية»، ظلت الصورة العامة معلقة على جدار المتخيل الأوروبي والأمريكي والعالمي. وجاء تنظيم «داعش» ليمسح عن تلك الصورة ما علق بها من غبار، ولاسيما بعد نشر الصور التي تبرز الدموية في قتل الرهائن، وتعيد ملامح ما تشكل عن الإسلام والسنة معا، رغم استهداف «داعش» للسنيين أيضا.
صارت الصورة المكبرة عن الإسلام والسنة مبأرة من خلال مفهومي: الإرهاب والتكفير. فالتكفير سلب لحق الآخر في ممارسة حياته الثقافية والدينية. والإرهاب ممارسة للتكفير عن طريق القتل. وصار كلما استهدف «علماني»، أو «موكب حسيني»، وجهت أصابع الاتهام إلى «السنة»، من خلال تسمية هذه الجماعة المتطرفة أو تلك، مع التشديد على الانتماء إلى السنة.
بعد إعدام صدام، لم تتشكل الديمقراطية في العراق التي كان يحلم بها الشعب العراقي، في تنوعه الثقافي وتعدده. بدأت تظهر مختلف الحقوق التي كانت محرومة من ممارسة نشاطاتها. وبعد الربيع العربي الذي جاء ليقول لا للفساد، ظهرت المخبوءات الثقافية، وبرز الشيعة للإعلان عن أنفسهم باعتبار أن لهم حقا هضمته، ليس الأنظمة الديكتاتورية، ولكن «السنية». وفي اليمن بعد تنحية صالح عبر «الشيعة» عن ممارسة حقوقهم وطقوسهم الحسينية لأول مرة. فانحرف الصراع ليصبح بين الشيعة والسنة، واختلطت الأوراق بين السنة والتطرف، فلم تكن النتيجة غير مزيد من التطرف المضاد.
تتجلى ملامح هذه الصورة، في العراق وسوريا واليمن بصورة خاصة. فـ»القاعدة»، في اليمن، مستهدفة من قبل الطائرات بلا طيار، ومن الحوثيين ومن الحكومة و»داعش» من قبل التحالف الدولي، والأكراد والنظام السوري، وحزب الله وإيران والمعارضة السورية، على مستوى الظاهر. أما الباطن فالمستهدف، أيضا، هم السنة، باعتبارهم موئل الإرهاب ومصدره الأساس. ولا يمكننا تفسير ذلك سوى بالتقارب الأمريكي ـ الإيراني الذي تدعم بموجبه أمريكا مشروع إيران في الشرق الأوسط. ويبدو ذلك بجلاء في السكوت المخزي عما يتعرض له الشعب اليمني والسوري والعراقي، بصفة عامة، من مظالم وفساد وتهجير وتقتيل، ومن خلال تبئير كل المواقف «العملية» على محاربة «إرهاب» والتطرف.
لا أحد يتحدث عن الأنواع الأخرى من الإرهاب الممارس ضد الإنسان في المنطقة. وكأن لا إرهاب إلا من خلال «القاعدة» و»داعش» والجماعات المتطرفة. إن الإرهاب يحارب بالإرهاب. وهنا مكمن ضياع كل الحقوق التي لا يمكنها إلا تغذية الإرهاب وتقويته وإدامته، وقد صار بين السنة» والشيعة، رغم محاولات طمس هذه الحقيقة. يكفي أن نتابع ما يجري في وسائل الإعلام، حيث تخاض حروب أخرى لنتبين ملامح هذا الصراع بجلاء. إننا نعاين بجلاء «الإرهاب» و»التكفير» كيف يمارسان من لدن المتطرفين شيعة وسنة معا. إن سب الصحابة، واستدعاء تاريخ صدر الإسلام، والفتنة، ليس سوى تكفير آخر، لا يختلف عن التكفير الذي يمارسه المتطرفون والإرهابيون، وهم يكفرون المسلمين، ويمارسون التقتيل ضد المسيحيين وغيرهم، بل وضد المخالفين من السنيين أيضا. ما الفرق بين «الخليفة» الذي يأمرك بمبايعته لتنال رضا الله؟ و»الإمام» الذي يأمرك بسب عائشة تقربا إلى الله نفسه؟ كل منهما يحل شريعة «الدم» لإحقاق الحق «السماوي» في الأرض. فهذا يقطع الرؤوس أمام الكاميرات ليقول للآخرين: هذه دموية الحق الذي نشهره ضد من لا يؤمنون به. وآخر يمارس الطقس الدموي نفسه بشق الرؤوس وضرب الصدور في مواكب تبكي الحسين، مؤكدا من وراء ذلك أن من لا يسيل دمه من أجل شهيد كربلاء ليس مسلما؟ وكل يرى أن شريعة الدم هي «الحق» الذي يجب أن يشهر في وجه الآخر. ومن هنا يستباح التكفير والإرهاب.
إننا نشهد محاولات لتعميق الهوة بين السنة والشيعة، وبين العرب وإيران. فلمصلحة من يتم ذلك؟ لا يطرح هذا السؤال السياسيون وهم يدافعون عن «الحق». فمتى يطرحه العلماء والمثقفون وهم الأولى بطرحه؟ بداية ردم الهوية بين الحقوق بداية نهاية التكفير والإرهاب.
٭ كاتب مغربي