في القرن السادس عشر، وبعد قرنين من نهضة أوروبا، وسعيها للبحث عن ذاتها، برزت الحاجة للمعرفة، من أجل أن يعيد الغربي تكوين وشرح العالم، ولكن عبر اللغة التي تبدو أشبه بقشرة للوجود، حيث تتوارى كل الأشياء أو حقيقتها. المعرفة التي صاغتها أوروبا بدءاً من القرن السادس عشر أتت لمواجهة عالم، لم يكن قد اكتسب بعد حدوده المعرفية، والإنسان بطبعه الفضولي، لن يستسلم قبل أن يدرك، ويعرف العالم بحدوده اللامتناهية من أجل إحكام سيطرته عليه، كما الغرب الذي تمخّض عن حملات علمية، بدت كمقدمات لتأسيس نموذج استعماري بغية تغذية الأوروبي، أو الغربي الذي استغرق في استثمار هذا العالم خدمة لمصالحه، وإلى الآن، ما زال العالم أسير هذه المقاربات التي تستهدف تنظيمه، أو بعبارة أخرى اختزاله إلى معطيات أو متماثلات، وهنا أحيل إلى عبقرية النموذج المستند إلى مقولات التعميم والقولبة، مما يعني تصفية منظومة من المشاكل (المختلفات) إلى تشكيل، أو نمط واحد، وهنا تبدو اللغة بوصفها تعبيراً، أو تمثيلاً للشيء، للآخر، وللمدى على سعته، وذلك اتكاء على تنظير ميشيل فوكو في عدد من كتبه لعل أهمها: «الكلمات والأشياء»، و«حفريات المعرفة»، و»تاريخ الجنون»، و«نظام الخطاب».
يلاحظ أن الغرب وفيٌّ لمسلك معرفة الأشياء، من منطلق أن المعرفة تتيح الإدراك، وصولاً إلى الهيمنة فالسّيطرة، ولهذا كان لا بد من مقاربة تستند إليها المعرفة، فكان «التّشابه» كما ذهب ميشيل فوكو في مسعاه الأركيولوجي في تحليل منهج أوروبا إلى اختلاق «النموذج» (المثال) الذي يساعد الإنسان على الخلق والابتكار، ومن هنا كان الرسم محاولة أولى لتقليد الفضاء. هذا التّشابه لا ينهض بذاته، إنما هو عملية تمثيل، أو بعبارة أخرى عملية تشكيل لغوي، يخرج عن المعنى القيمي والمعياري المحدد، فاللغة في تكوينها البدائي، كانت تذهب إلى محاكاة العالم، أو كما يقول فوكو بأن اللغة على علاقة تماثل مع العالم أكثر مما هي على علاقة بالمعنى. إن ما يحدد المعرفة ذلك التّنبه الذي يفضي إلى عملية توافق، ومن هذا المنطلق، فإن الغرب غالباً ما يعمد إلى خلق معارفه بناء على مقدار توافق بعض المعطيات، علاوة على تلاؤمها، ولهذا نجد أن المكان هو احد السّبل لعملية تكوين معرفة حول شيء ما، فالغرب قد شكل العالم بناء على معطيات مكانية، وهذا يفسره ولع الغرب بتقسيم العالم إلى جغرافيات، وقطاعات، وكي تكتمل العملية، لابد من اللغة، التي تصبح مع مرور الوقت قوة فاعلة ومؤثرة في تشكيل معرفة الشّيء، حيث لا يمكن في ما بعد لأي قوة أن تنتهك الشّيء الممثل، خاصة ما لم تنبثق لغة متعالية تستند إلى علاقات أخرى من أجل فكفكة هذه التّجسيد الإشاراتي القائم على معطيات استقرّت، ولكن العقل الغربي أشاع منظومات معرفية، وتاريخية حول الموضوع، وبذلك فقد صاغ أجزاء كبيرة من العالم، الذي بات محكوماً بالمعرفة التي اختلقتها أوروبا حول شعوب وثقافات أخرى، نتيجة فعل المشابهة فقط. ومن تلك النماذج أو الآليات التي يمكن أن تستند لها أوروبا في تكوين المعرفة حول الشيء، ما يطلق عليه فوكو علاقة «التنافس»، وهي علاقة تنبثق من فلسفة التشابه، فالعينان تعكسان النور الأعظم على حد تعبير فوكو. هذا النسق لابد أن يتأسس على وجود علاقة تنافس بين متماثلين، غير أن المضي قدماً في تحليل هذه العلاقة المرآوية، يقودنا إلى أهمية فصم هذه العلاقة، ولهذا لا بد من نموذج أن يطغى، أو أن يقصي المتماثل، وهكذا يبدو الغرب في تكوينه للآخر أشد ما يكون مستنداً إلى إطار التّنافس بين متماثلين، نظراً للعلاقة التناظرية، غير أن من شأن هذا التنافس أن يقصي الشبيه الأضعف، ومن هنا تتبدى المعرفة بوصفها نسق بقاء المهيمن والأقوى، مما يتيح في ما بعد اختزال المعرفة، وتوجيهها في سياق أبسط، في ضوء تحولات التنافس، ومما يجب التنبه له أن العديد من الصراعات التي غُذّيت في العالم، كان تنشأ بين متماثلين، كما الهند وباكستان، العرب والأتراك مما يتيح تسهيل مهمة إدراك الشيء، ومن ثم التعامل معه، ولهذا اعتمد مبدأ القياس، وهي خطوة تختزل المعرفة اتكاء على منهجية النموذج، وهنا يستدعي فوكو عبارة ألدروفاندي في مقارنته للأجزاء السفلى من الإنسان بالأمكنة العفنة من العالم، وبالجحيم وبظلماته، وبالمعذبين فيه الذين هم كبراز الكون، وهي كناية عن الإسقاط المستند إلى منهجية القياس التي ميّزت العقل الغربي.
وأخيراً، يظهر التّشكيل الرابع للمعرفة، ويتحدد بالتعاطف، فالورود أو أزهار (الحداد) هي في الاصل قيم جميلة ودلالة فرح، ولكنها تتحول إلى مبعث للحزن نتيجة توسطها لعلاقة تعاطف بسبب محاذاتها، أو تموضعها في سياق جنازة ما، هذا المثال يلتقطه فوكو كي يعلل نسق توصل أوروبا إلى معرفة في كل ما يحيط بها، ومن هنا تتبدى قدرة أوروبا على التّمثل، ومطابقة الأشياء وتصنيفها وفهرستها، ولكن هذا لن يتحقق ما لم يسارع إلى إدراك تلك العلاقة التي تنشأ بين التعاطف والتنافر، فالثاني يبقي على الأشياء وكينونتها، في حين أن الثاني يذهب بها بعيداً حيث يمعن في مماثلتها، كونه يقضي على خصائصها. وهكذا نجد أن التعاطف يمضي إلى مسلك المجانسة، وهو تشكيل غربي متأصل لاختزال العوامل والأشياء، بما في ذلك الشّعوب والثّقافات، وبمرور الوقت تفقد الأشياء ميزاتها، وهنا نحيل إلى الهوية التي تبددت وتشرذمت وانبثقت بالتكوينات اللغوية المؤسسة للمعرفة الأوروبية، فالاستعمار والاحتلال العسكري والإخضاع، وكل ممارسة تعسفيّة تذهب إلى قوة مخاتلة من حيث مجاورة الثّقافة الأقوى التي تنزع شيئا فشيئا خصائص الثقافات الأخرى، عبر خاصية التعاطف باتجاه الأقوى المستند إلى سحر التفوق. يضرب ميشيل فوكو مثالاً على هذا النهج من خلال إحالته إلى العناصر الأربعة التي تشكل هذا الكون، ونعني الماء والهواء والتراب والنار، إذ هي عناصر قائمة بحد ذاتها تبعاً لوجود علاقات تنافر، أو تشابه كما بين الماء والنار، ولكن حين نسعى إلى معرفة بعضها وتحويلها، فلا بد من البحث عن الخصائص التي تجمع بينها، أو عن عناصر تتوسطها، كأن نضع الهواء بين الماء والنار، وهذا يفسر الكثير من الكيانات التي نشأت بفعل الهيمنة الأوروبية ونموذجها إسرائيل، وبذلك فإن العقل الأوروبي يعيد تكوين العلاقات، ليضحى الشيء قائماً بحد ذاته، أو أنه يغدو فاقداً لهويته.
إن المسعى السابق في تكوين المعرفة، لن يكون ناجعاً ما لم يستند إلى ما ينعته فوكو بالتواقيع، أو تلك العلامات التي تتيح إدراك الأشياء. وكما يقول فوكو فإن الله وضع لنا علامات كي نتوصل بها إلى تلك الأشياء، ومن ثم إقامة معرفتنا بناء عليها، ومن هنا برز اهتمام الغرب بقراء العلامات، أو تلك التواقيع بغية الإمساك بالمعرفة، وحدودها، فالعالم كما يقول فوكو مغطى بالشّعارات والحروف والأرقام والكلمات الغامضة، ولهذا نحتاج إلى أن نفك هذه الرموز والأشكال التي تمكننا من اكتشاف العلاقات التي أشرنا لها سابقاً، كالمشابهة والتعاطف والتنافس… وبوجود الإشارات لا بد من وجود علم التأويل (هيرمينوتيكا)، وهي عبارة عن مجموع المعارف والتقنيات التي تسمح للإشارات بأن تتكلم، في حين أن علم السيمياء يعنى بتبين وجود الإشارات، ومعرفة روابطها وقوانين تسلسلها، ومن أجل الوصول إلى التشابه والمتشابهات، لابد من فعل الخطاب، وفي حالة عدم التّطابق التام بين علم التأويل وعلم الإشارات (التواقيع) أي بين صلابة المتشابهات؛ أو بين الخطوط وبين الخطاب، فلا بد من إيجاد علاقة أخرى حيث يجب أن نتجاوز من الشّبيه إلى ما هو شبيهه.
وهكذا فإن تكون المعرفة بات أقرب ما يكون إلى عملية نقل لغة إلى لغة، أو بعبارة فوكو الخطاب الثاني الشارح، وهنا لا بد لي من استحضار قصة بورخيس «مكتبة بابل» التي تستند إلى هذا اليقين حول لا يقين المعرفة، ولا جدواها في ظلال خطابات تعبر الخطاب، ولغة تنمو فوق اللغة، وهكذا يتوصل فوكو إلى أن المعرفة لا تنهض على الرؤية، ولا على قوة البرهان والدليل، إنما تكمن قوتها في التأويل وشرح الأقدمين، فنحن نواجه في مسيرتنا لتحصيل المعرفة حول موضوع ما قدراً أكبر لتأويل التأويلات من تأويل الأشياء ذاتها، كما نجد الكتب التي حول الكتب أكبر مما نجد حول الشيء، أو الموضوع ذاته، وبذلك فإننا لا نفعل شيئا سوى «أن نفسر بعضنا بعضاً ». وهكذا لا بد من البحث عن التعليل البدائي لهذا الدرب الذي يقود العقل الإنساني المحمول على أن يفترض في الأشياء نظاماً وتشابهاً أكثر مما يجده فيها؛ في حين أن الطبيعة مليئة بالاستثناءات والاختلافات، بيد أن العقل يرى فقط الانسجام والاتفاق والتشابه في كل مكان كما يرى ميشيل فوكو، وبهذا فإن معرفة أوروبا في القرن السادس ومسالكها، أثمرت تصورات للمعرفة أسهمت في تكوين وخلق أنساق من الهيمنة نتيجة المعرفة التي بدت أقرب إلى اقتحامات منهجية غبر مبررة.
٭ كاتب فلسطيني / الأردن
رامي أبو شهاب