تعيش موريتانيا اليوم لحظة قلق لازمتها، منذ النشأة، تشتد أحيانا وتتوارى بعض الأحيان، هي إفراز منطقي لميلاد قسري، يفسر الهدف من هذه الدولة ويلخص طبيعة العقلية الاستعمارية.
بلد ولد كرها فوق رمال متحركة، وطلب منه أن يتصرف ك"الراشدين" وأن يتقن فن السباحة داخل الأمواج العاتية وأن يتعلم "أسلوب التعامل" مع الحيتان الكبيرة ومشتقاتها المحلية.
من هنا كانت البداية القلقة، التي عكستها مسيرة نصف قرن، ظل كل شيء خلالها مؤجل: الدستور مؤجل وثوابت الوطن مؤجلة وحل مشكلة التعايش والغبن- من خلال دولة المواطنة- مؤجلان والتنمية مجرد قشور وفرصة للنهب والدعاية، مشكل الحكامة يضغط بقوة، دون بروز أي حل في الأفق.. الكل ظالم ومظلوم في نفس الوقت، نتزاحم جميعا أمام كعكة الوطن ونتبادل بالمجمل تهم مسؤولية التقصير والخلل اتجاه بعضنا البعض واتجاه البلد.
كل هذا يحدث أمام سلطة تريد الاستحواذ على كل شيء، ونخبة دجنت وأصبحت لا تنظر إلا بعيني الحاكم، تتماها مع مزاجه، وتعضده من أجل ترسيخ اختزاله للوطن في ذاته، ليصبح هو الوطن وهو المالك لكل شيء، كل شيء..
واليوم وأمام رحلة سيزيفية، امتدت لأكثر من نصف قرن، ها هي إحدى لحظات الحصاد المر تطل برأسها، دون أن يكون هناك مسئول نحاسبه حسابا عسيرا أو نعرف على الأقل من الفاعل، وهذه إحدى مفارقات وضعنا القلق.. سيل من المعضلات المهددة للوجود، أظهرت البلد وكأنه بدون ربان، فأصبحت الفتن تطل علينا بوجهها الكريه، وتقدم نفسها في ثوب حرية التعبير و"إكراهات الديمقراطية"، وأضحى شعبنا المسالم والمتساكن منذ قرون عدة، يتحسس كل واحد منه سلاحه أو سكينه أو عصاه، حتى لا يفاجأ بلحظة غدر أو حالة انفلات قد تحدث في أي لحظة.
هل هذا هو ما أسست من أجله الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟ وهل خرجنا من جحيم الإستعمار وذله والسيبة وإكراهاتها إلى درك الفتنة ونسف الوجود؟
ألا تشكل الصوملة وانهيار الدولة في معظم "بلدان الربيع" أبلغ رسالة تصرفنا عن وجهة يدفعنا إليها السفهاء منا والانتهازيون وأصحاب الأجندات الخارجية؟
أين السلطة وأين عقلاء البلد اتجاه ما يحدث؟ وإلى متى نبقى مستكينين لواقع يخنقنا جميعا ويزرع فينا اليأس أكثر مما يجلب لنا الأمل؟ ألا يدرك عقلاء البلد أن أبسط حريق قد يمتد إلى الجسم كله؟ ألا يدرك الأغنياء أن هامش ربحهم سيختفي عند أول هزة وقد تضيع معها الثروة إلى الأبد؟ من سيدافع عن الفقراء والعجزة الذين سيصبحون أول ضحية لأي فتنة أو أي نسف للاستقرار؟
هل تريد السلطة من خلال ظاهرة "بيرام- بيران" أن تقايض الديمقراطية بالاستقرار؟ وهل لديها ضمانة بأن لا يخسر أصحاب النفوذ كراسيهم ومكانتهم عند أول محطة؟
إلى متى نبقى كثيرين حول السلطة وقليلين حول الوطن- كما يقول المهاتما غاندي؟
إن واقعا كهذا لا يخدم أحدا من الفئات أو الأعراق بالبلد، وإذا تطور نحو الأسوأ- لا قدر الله- فإننا جميعا، سنصبح كالأيتام في مأدبة اللئام وسيصبح قريب اليوم في الجوار، هو الأبعد غدا.. وعندها ستختفي جميع المطالب المؤملة، لتصبح: عريشا يحمينا من الحر وصدقة مذلة تقدم من خارج الحدود، فوق أي شريط من هذا الوطن الفسيح...أما التفاصيل المحتملة، فهي كابوس لا أحد يرغب في سماعه.
فليس أمام الماسكين بالسلطة إلا أن يدركوا أنه لا بد من مستوى من العدل والإنصاف، سواء على مستوى تقسيم الثروة أو إشراك الناس في شؤون بلدهم(خاصة الوطنيون أصحاب الكفاءة)، وعندها ستكون هذه السلطة الحالية أو المستقبلية أول الرابحين وستتسع دائرة شركائها في الدفاع المخلص عن البلد- بالمنطق والحجة وليس بالتزلف، الذي ظل سلعة مزجاة خلال جميع الحقب، رغم أنه قد أهلك الحرث والنسل.
إننا اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخ دولتنا الفتية، يسعى خلالها البعض إلى الزج بكل شيء في أتون الفتنة، من أجل مكاسب شخصية، قد لا تكون مضمونة، وسلطة تضع رأسها في الوحل، كي لا ترى ما يدور حولها، مدعية أن ما نراه، مجرد إكراهاتللديمقراطية ودليل عملي على حرية التعبير، وشعب مرتبك أمام مشهد عاجز عن فك طلاسمه، يتوجس منه ويستهزئ به في نفس الوقت.
إنها مقدمات لحريق يسعى مرجفون إلى إشعاله في حطب لا زال مبللا، لكنها نار قابلة للاشتعال، فالبذرة موجودة والمتربصون كثر..أما النتائج، فهي ماثلة في الجوار والإقليم، فما لم يطح بنهج، هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه وتزاح رؤوس تخدم بطونها أكثر مما تخدم وطنها وتحدث قطيعة مع الماضي، فليس لنا إلا أن لا نتوقع الأسوأ، فللفتنة ضريبة، تحول المنتصر إلى خاسر وهي وحدها من يتسبب في ضمور المطالب ويجعلها تنحدر إلى مستوى نحتقره اليوم ونستخف بوجوده.
محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي
16/11/2014