في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأت البعثات العربية من مصر وسوريا ولبنان تنهل من علوم أوروبا وآدابها، وهو ما غيَّر من هذه البلدان وجعل منها منطلقاً لعصر النهضة العربية، التي قدمت الكثير في مجالات يصعب إحصاؤها. البعثات العلمية من جهة، والمهاجرون من جهة أخرى، نقلوا لبلدانهم ثقافة جاهزة قدّموا من خلالها تمكن المجتمع حينها من تقبّلها وهضمها وإعادة إنتاجها بحسب ما يحتاجه المجتمع.
ربما لم يشهد العراق مثل هذه البعثات، إلا النادر منها، هذه الهجرة تأخرت لأكثر من قرن في العراق، ففي ثمانينيات القرن الماضي بدأ بعض الكتاب والأكاديميين والأطباء بالهرب من الحرب العراقية الإيرانية ونيرانها، التي أكلت أكثر من نصف مليون شاب، ومن ثمَّ الحصار الاقتصادي في التسعينيات الذي أجبر أكثر من خمسة ملايين عراقي على الهرب من أجل لقمة العيش وهربا من سلطة البعث والحروب التي لم تتوقف حتى الآن.
بعد سنوات طويلة، حاول بعض المهاجرين العودة للعراق، بعد أن تعلموا لغاتٍ أخرى وتمثلوا ثقافات جديدة وعاشوا في قوانين مثالية في أوروبا وأمريكا، لكن السؤال الأهم: ما الذي أضافته ثقافة المهاجرين العراقيين لهذا البلد؟ وهل تمكنوا من تغيير محلية ثقافتنا وانغلاقها؟
دوائر مغلقة
يقارن الدكتور سعيد الجعفر بين الفترة التي حدثت فيها الهجرات من بلاد الشام ومصر إلى بلاد المهجر بهجرة العراقيين، ويرى أن ظروف تأثيرهم في ثقافة بلادهم تختلف جوهرياً عما حدث للعراقيين. ففي حينها كانت هنالك بلدان صاعدة نحو النهضة تتقبل كل ما هو جديد، وكان عصر النهضة العربي في أوجه. ولذا جاء تأثير المهاجرين ليجد تربة خصبة لينمو فيها. وهكذا كانت التأثيرات واضحة في الأدب والشعر والموسيقى والسينما، بل وحتى في الفكر الإسلامي.
مضيفا أن ما يحدث في العراق اليوم معاكس تماما، لذلك فالعراقي الذي يعود من الخارج يواجه ليس فقط مجتمعا لا يتقبل آراءه، بل إن هنالك أوليغاركية تمسك بزمام السلطة والمال تحصي أنفاسه، ولو تطلب الأمر تفرغ طلقة في رأسه. المشكلة الأخرى التي لم تكن قد ظهرت في فترة الهجرات من بلاد الشام ومصر، التي نواجهها في العراق اليوم هي التمييز بين المهاجرين والمنفيين وبين من بقوا داخل العراق. ولذا ظهر مصطلح «عراقيو الخارج»، وسببه أن فترة نظام صدام أفرزت من الجور والجوع ما جعل الناس يحسدون من تمكن من مغادرة البلد، رغم أن الكثير ممن غادروا العراق كانوا إما من الناشطين السياسيين المطلوبة رؤوسهم أو العسكريين الفارين من حروب لا معنى لها أو ممن شاركوا في انتفاضة 1991 أو من الأقليات المضطهدة أو من سافروا على أساس قوانين جمع الشمل.
ويشير الجعفر إلى أن هنالك موضوعا ثالثا يميز هجرة العراقيين اليوم عن هجرة المصريين والسوريين واللبنانيين، وهو أن المهاجر كان ما أن يحل في بلاد الهجرة حتى يتقبل ثقافتها وينفتح عليها. أما عراقيو المهجر اليوم فهم يعيشون في الأعم الأغلب في «غيتوات» أول مظاهرها أنهم لا يتعلمون لغة البلد، كما أن طغيان التدين يؤدي إلى عدم تقبلهم الآخر. ولذا واجهت دول الهجرة مشاكل هائلة في اندماج المسلمين بالذات. «للأسباب أعلاه أرى أن تأثير المهاجر العراقي في ثقافة بلده لا يقارن أبدا بتأثير المهاجرين المصريين والسوريين واللبنانيين، رغم أن هناك جالية عراقية مهاجرة هائلة تقدر اليوم بخمسة ملايين مهاجر. وليت الحكومة العراقية تقوم بإجراءات وتضع خططا للاستفادة من الإمكانات الهائلة التي يملكها المهاجرون، خصوصا الجيل الثاني والثالث».
شعب جديد
ويرى الكاتب ناصر الحجاج أن انفتاح أي مجتمع على ثقافة مجتمع آخر، مدعاة إلى تبني ثقافات جديدة، سلبا أو إيجابا، ويعتمد ذلك على نوع الانفتاح وطبيعته، أولاً، ثم على نوع الشريحة المنفتحة، ومدى تأثيرها على مجتمعها الأول، ومع تنوع الانفتاح في مجال الاقتصاد والتجارة، أو اكاديميا وتكنولوجيا، يبقى المجال الثقافي هو الجامع الأكبر لكل تلك التلاقحات الاجتماعية، فازدياد رؤوس الأموال ونشوء طبقات عمالية، أو رأسمالية بسبب الهجرة، يحمل في طياته سلوكيات اجتماعية وثقافية عميقة، لا تقتصر على طبيعة المأكل والملبس في بلد الهجرة، بل تشمل طرق التعامل اليومي، والتعابير اللغوية وعددا من المعارف والفنون والرياضات وطرائق التفكير.
ويوضح الحجاج أن عددا لا يستهان به من العراقيين الذين عاشوا فترات متفاوتة في بلدان المهجر في أوروبا وأمريكا عادوا، إلا أنهم وجدوا شعبا عراقيا مختلفا، لا يكادون يعرفون جغرافيته الاجتماعية ولا النفسية ولا الاقتصادية ولا الإدارية، وجدوا مجتمعا ذا سلوكيات وطبائع مكتسبة جديدة هي ما أطلق عليها عبد الرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد»، حيث نشأت سلوكيات بقيم ومفردات جديدة مثل «الحواسم، العلاس، القفّاص، الصكّاك، العاوي، الفايخ، …» وعشرات الصفات التي تحتاج إلى أبحاث سايكولوجية، سوسيولوجية لإدراك أبعادها، تلك الطبائع وغيرها كانت كفيلة بإغلاق أبواب العراق ومنع المهاجرين من العودة الفاعلة إلى نســـيج المـــجتمع العراقي، مختصرا أسباب ذلك:
- نظام الحكم بني على أسس طائفية لا وطنية، ورفض إقرار قانون الأحزاب الوطنية الذي يجرم الدعوات التي تميز بين أفراد الشعب على أساس العرق أو الدين، أو القومية أو المنطقة أو الجنس.
- إهمال النظام الإداري للمؤسسات غير الحكومية، والخلط الحاصل بين الحزب السياسي والمنظمة اللاربحية، بحيث دخلت منظمات مجتمع مدني للانتخابات وفاز مرشحوها.
- لم يضع البرلمان العراقي أي قوانين وتشريعات أو ضوابط تسهل عودة المهاجرين، وتضمن لهم حياة طبيعية كالتي يعيشونها في بلدان المهجر أو حياة مقاربة لها.
- انتشار مفهوم «عراقيي الداخل وعراقيي الخارج» الذي روج له إبان فترة الحصار للحد من هجرة العراقيين، إلا أنه أصبح سلوكا في دوائر الدولة، بحيث ينظر إلى العراقي المهاجر على أنه أقل وطنية وأقل ولاءً.
لهذا بقيت الثقافة العراقية منغلقة على نفسها طوال السنوات الإحدى عشرة الماضية، وستظل كذلك حتى تسن تشريعات تحترم الانفتاح الثقافي.
هجرات جماعية
يشير الشاعر باسم فرات إلى أنه حينما ذهب المهاجرون الأوائل، كانوا فرادى، فلم تكن ثمة جاليات يلتصقون بها فتضيع عليهم فرصة معرفة المجتمع الجديد، وبهذا حين عادوا وهم أصلاً ذهبوا للدراسة في الغالب الأعم، كانوا قد تمكنوا من جمع حصيلة معرفية عن البلد الذي هاجروا إليه، وهذه الحصيلة ساهمت في تغيير ثقافة بلدانهم. بينما هجرة العراقيين كانت متأخرة وكثيفة ومتزامنة، ولم تكن طلبًا للمعرفة بل للأمان.
مفيداً أن خروج الإنسان مجبرًا من وطنه يجعله يتشبث به وهو في المنفى، بل يصوغه كما يريد، فلم يعد الوطن هو المكان الحقيقي الذي عاش فيه وعانى لدرجة أُجبِرَ على الخروج منه، بل هو الوطن الذي تشذبه الذاكرة والمخيال والأمنيات. من هنا يلتصق المهاجر وهو عادة لاجئ بأهل بلده ويجد صعوبة في الاندماج الفاعل الخلاق بمجتمع غير مجتمعه، وعليه فاحتكاكه بالمجتمع الجديد هو احتكاك فوقيّ وليس احتكاكًا عميقًا يترك أثره فيه فتصبح همومه مختلفة، أي هموم فيه تعاشق ثقافتين وهضمهما. ويبين فرات أنه ليس في حوزتنا منجز ضخم نجد فيه هذا التعاشق، بل المنجز الثقافي العراقي الذي دُوّن خارج العراق لا يختلف كثيرًا عما عليه في العراق, والحالات التي تتضح فيها المؤثرات الثقافية الجديدة قليلة مع الأسف، كما أنها تتراوح في مستوى معالجتها وهضمها للثقافة الجديدة.
من جانب آخر ثمة مسألة يظنها فرات في غاية الأهمية، وهي أن أولى خطوات الهضم أو التفاعل والاندماج الخلاّق، هي معرفة أن الشعر في الثقافة الغربية لا يملك مكانة كما في الثقافة العَرَبية، وأن ليس عند الغربيين ثقافة الإقصاء كما لدينا، فلا يمكن أن تقول وبالسهولة التي لدينا، إن فلانًا ليس شاعرًا، فهذه جملة تتناقض والثقافة الغربية… بينما مع كل هذا العدد الكبير من الشعراء والأدباء الذين يعيش بعضهم منذ أكثر من ثلث قرن لم يتم نقل هذه المسألة وإشاعة أن الشعرَ ثانويٌّ، والباحث أكثر أهمية من الجميع، وأن مكانة الروائي أكبر من الشاعر، وأن لا فرق بين ديكتاتور يقصي الآخرين وبين شاعر لا يجد أهميته ومكانته إلاّ بترديد عبارة «إن فلانًا ليس شاعرًا» ولا يثني إلاّ على المطبلين له.
مضيفاً: «كنت أؤمن قبل هجرتي أن العيش في بلدان اللجوء والهجرة، يجعل الإنسان يتخلص من سلبيات مجتمعه ويكتسب أسس التطور في تلك المجتمعات، لكن بعد هجرتي اكتشفت أن مقولة «مَن شبّ على شيء شابَ عليه» تنطبق علينا جميعًا، نحن الذين تركنا مرابع الطفولة والصبا. لم نتغيّر كثيرًا، معظمنا شغله الحنين فكَوّنَ وطنًا صغيرًا في المنفى، أي الارتماء في أحضان الجالية، ولم استغرب حين سمعت من مثقفين عراقيين أنهم منهمكون بنشاطاتهم فقط، ولا يتفاعلون مع نشاطات البلد الذي يعيشون فيه ويحملون جنسيته، وحتى مَن تفاعل منهم فهو تفاعل فوقيّ، لم يستشف الأعماق فبقيَ يحتفظ بنرجسيته ومفاهيمه وأولها تباهيه بأنه قارئ رواية نهم، علمًا بأن قارئ الإبداع في مجتمعات اللجوء والهجرة لا يُعَدّ مثقفًا».
وقود العودة
الكاتب عمار السواد يتحدث عن المفارقات التي واجهت العراقيين العائدين من الخارج، فهم لم يكونوا سوى وقود إضافي لمزيد من الوضع السيئ، للنيران كي تحرق البلاد أكثر وأكثر، فمن انخرط منهم في الحياة السياسية والحكومة والعمل النيابي والمحلي لم يقدم إضافة تذكر، سوى أنه انخرط في الأزمة. لذا المقارنة بين هؤلاء المهاجرين والبعثات إلى دول العالم في القرن الماضي أو الذي سبقه ليست دقيقة، هؤلاء جماعات بشرية خرجت من العراق في ظروف استثنائية هروباً من الاستبداد أو الفقر لإيجاد بيئة أنسب للعيش، أو لأسباب سياسية، بينما البعثات كان لديها غرض محدد، هو التواصل الثقافي والفكري، والإتيان بالخبرات. فالعراقيون ذهبوا ليكونوا جاليات لا تحتك بالآخر، بل تعيش مع نفسها، تنظر للآخر عبر فضائها الخاص، وتتعامل معه بمنهجية حذرة، لأسباب دينية أو سياسية أو مجتمعية، لذا بقيت بلا خبرة تذكر. والأجيال اللاحقة التي قد تكون احتكت أكثر، لم تعد، بل اختار أغلبها البقاء هناك، في الوطن البديل، «لذا ليس متوقعا من هذه الجاليات القيام بشيء مهم تجاه العراق، لأنها أيضا لم تتعلم في جامعات غربية، وحتى اللغة الخاصة بالوطن البديل لم يتعلموها كما ينبغي، واعتمدوا بدرجة رئيسة على الإعانات، وليس العمل، لذا هي فقدت حتى خبرة الاحتكاك في العمل».
وطنيون وطائفيون
لكن الشاعرة والمترجمة مريم العطار، التي ولدت وعاشت في إيران، وعادت قبل سنوات قليلة، تؤكد أن بلدا عاش وما يزال يعيش كل يوم نكبات من الحروب الداخلية والخارجية, بلداً يتلاعب حكامه بمصائر شعوبه حسب مصالحهم الشخصية، والفساد الذي يأخذ نصيبه الأكبر في أي دائرة حكومية أو دور للثقافة، من الصعب أن يجد المثقف فيه ظروفاً شبه طبيعية لتمكين شعبه ثقافيا، لذا يقرر المثقف الخروج والاستقرار خارج بلده.
مضيفةً أن أغلب المثقفين المهاجرين يساندون العراق بكتبهم، بمشاريعهم الثقافية، بمقالاتهم شبه اليومية، يحلمون بدولة مدنية, يشجعون الشباب داخل البلد على الثورة على الانتفاض الدائم ضد النظام والعنف، ونجدهم أكثر عدوانية مع الدولة الحاكمة..!
العطار تصنف نوعاً آخر من الشخصيات، كبعض المهاجرين الذين يصفرون لجيوش الطائفية، ويكونون أول من ينتقد وأول من يوجه إصبع الاتهام لشعبه ولبلده، وأول من يكتب عن الحرية وهو فاقدها. «رغم هذا أذكر بحيادية تامة لو وجد فريق أو شخص للتطوع بالرجوع المؤقت لإقامة فعالية ثقافية ما، يواجه صعوبة في تلبية الأسس الصحيحة لإقامة الحدث في العراق، لأننا في بلد غير مستقر ونفتقر للثقافة والمثقف الحقيقي، لذا أجد رغم الفساد الذي يواجهه المثقفون القلة في العراق الرجوع والبقاء هو الحل الأنسب فقط لرفع مستوى الثقافة ولو قليلاً». مبينةً أنه الآن في العراق كل شيء شبه متاح لإقامة فعاليات يمكن أن ترفع من المستوى الثقافي، لكن المثقف المهاجر لم يحرك ساكناً، ولو أتى لبلده، يأتي حسب ضوابط دولته الحاضنة تخصصها له وهذه الفعاليات لو أجريت في العراق فهي شكلية لا تعوض الخسائر الثقافية والاجتماعية التي خسرها البلد والمواطن, «والأهم من هذا لا تأتي دولة مدنية أو مستقرة بغياب المثقفين».
أسباب التحوّلات
يضع الكاتب والروائي سعد محمد رحيم أسباباً لعدم لتأثير المهاجرين العائدين على ثقافة العراق، ربما يتمثل الأول بالاستقرار الذي يعده ضروريا لممارسة التأمل والتحليل والعمل الفكري والمعرفي الصبور والمتأني. و»ما دمنا في خانة السياسة فلنشر أيضا إلى سطوة الآيديولوجيا على الفكر في العراق، وأعتقد أن الأحزاب الشعبوية تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية بهذا الخصوص، حيث أعاقت محدداتها الآيديولوجية وخطابها الإنشائي الانفعالي الشعاراتي بزوغ الفكر العقلاني النقدي والمعرفي واتساع دائرته».
أما السبب الثاني فيتعلق بطرق التعليم والقائمة على التلقين، فمؤسسات التربية والتعليم في العراق نأت عن تعليم المنطق والفلسفة وطرق التفكير العلمي في المراحل المبكرة للتلاميذ، كما أنها غالبا لا تطوِّر اللغة الأجنبية عند الطلبة، على عكس ما يحصل في بلدان عربية أخرى كمصر ولبنان والمغرب العربي، وبذا يحرم الطالب العراقي من الاطلاع على المصادر الأجنبية التي هي بمثابة الرافد لأي منجز فكري ومعرفي. وكانت ترجمات كتب الأدب والنقد الأدبي أكثر بكثير من ترجمة الكتب الفكرية في حقول علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والفلسفة وغيرها.
لذا يجد رحيم أن الجهد التنظيري والتحليلي المنهجي للمفكرين العراقيين انتعش في المنافي، لاسيما بعد حقبة الثمانينات وبرزت أسماء أنتجت دراسات وبحوثا مهمة موضوعاتها الأساس الوضع العراقي وتحولاته ومآلاته.. ورغم أن هؤلاء كانوا متحررين من عقدة الحذر والخوف إلى حد بعيد، إلا أنهم لم يكونوا مؤثرين في الداخل العراقي، لأن من بقوا في الداخل اكتفوا بالكتابات النقدية الأدبية، أو بالتنظيرات العامة التي لا تحفر عميقا في الواقع وتخفق في اجتراح مفاهيم فعالة لقراءته وتحليله. و»بعد 2003 ومع توافر أجواء من الحرية النسبية دخل معترك الكتـــابات الفكرية عدد لافت من مثقفي العراق ومفكــريه الواعدين، لينتجوا دراسات وبحوثا في حقول المجتمع والتاريخ والسياسة، وهي المقدمة باعتقادي لنهضة فكرية ومعرفية عراقية سنجني ثمراتها خلال السنوات والعقود الآتية».
هوامش الحرية
يعترف الشاعر مكي الربيعي أنه حينما نخضع الموضوع للمقارنةِ، سنجد أن المثقف العراقي في المهجر، لم يستطع أن يرفد الثقافة العراقية بما اكتسبه من خبرات معرفية ودربة في المجال المعرفي والثقافي، وذلكَ بسبب أن الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق أنظمة يمكن أن نقول إنها انبعثت من رحم (الأجهزة السرية) ، ولهذا تجد أن جميع المثقفين الذين هاجروا خارج العراق، كانت هجراتهم بسبب تقاطعهم مع تلك الأنظمة في المواقف والرؤى.
ويؤكد الربيعي أنه في لبنان ومصر كان الأمر مختلفاً، إذ هناك هامش من الحرية يمكن أن يشتغل عليه المثقف حيثما يكون، وبذلك يمكن تمرير ما ينتجه بسهولة إلى الداخل، عكس ما هو موجود من صرامة ورقابة ومتابعة على الأفكار العراقية الوافدة من الخارج، حيث لم تسمح الأنظمة المتعاقبة من دخول ما ينتجه المثقفون العراقيون خارج الحدود من كتب ومؤلفات، لذلك بقي التأثير محدودا وغير ملحوظ. في لبنان ومصر يكاد يكون هذا الحجب معدوماً، بل كانت دور النشر لا تعاني من ترويج الكتب التي ينتجها المثقف المصري أو اللبناني خارج هذين البلدين، عكس ما كان يحدث في العراق تماما، حيث كانت السلطات لها عيون مبثوثة على دور النشر والمكتبات، وتراقب بشكل يومي ومستمر حركة الكتاب في سوق الكتب، ولهذا نجد أن ثقافة تهريب الكتاب واستنساخه كانت نشيطة ولكن بتداول محدود وحذر. «لهذه الأسباب، يمكن أن نكتشف أن تأثير المثقف العراقي الذي يعيش في المنفى، لم يكن واضحا وذا قيمة تذكر، إلا بحدودٍ معينةٍ وطفيفةٍ».
صفاء ذياب