«ضمير مؤنث» لحميد الراتي بين شعرية الاستفهام وهلامية الحكاية

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
جمعة, 2014-11-21 19:50

يعقد القاص حميد الراتي في مجموعته «ضمير مؤنث»، صفقة مع قارئ مفترض، يرسم له الطريق بحروف مغموسة بصدق الرسالة، وبحيثيات لا تكشف عن نفسها، إلا حين يعيد اكتشافها قارئ فطن، يشركه القاص في نهايات قصص، يرسم السؤال حدودها المفتوحة على أجوبة تُثري واقع البوح فكراً وإبداعاً.
وإذ لا يغيب الوفاء لتفاصيل الواقع المهلهل الذي يبغي إعادة تشكيله، فإنه يخوض مغامرة إعادة تركيبه، فيصرّح:
« ربما لن نلتقي بعد عمر من حزننا
لكننا سوف نلتقي بعد قصيدة من شغبنا»
وكأننا ندري، أن وشم الكلمات الذي يمخر عباب ذاكرتنا كنزف أبدي هو لقاء من نوع خاص.
يواجهنا الراتي في «ضمير مؤنث» وعلى امتداد اثنتين وثمانين صفحة من القَطع المتوسط. بالسارد الذي يصوغ الحكايات، ويحاول ما أمكنه أن يجعل الحقيقة عائمة، خارج مدار الوعي الساذج، وأن يدخل السارد ذاته تفاصيل مسروده، ويخرجه منه حين يشاء، على نحو ما نجد في نهاية قصة ظرف، حيث نقرأ: «ثم غفا من دون أن يطفئ نور مكتبه، ولست أدري، أبعث بالظرف أم مزّقه في صحوة الصباح، لأنني كنت خارج مدار الحكاية».
إنّه نوع من التماهي مع القارئ، وكأني به يقول: لست أفضل منك أنا صانع الحكايات، تستطيع أن تعيد تركيب الحكاية وتفكيكها، كما تستطيع أن تخلص لنتائج خاصة بك، فكلانا ـ أنا وأنت ـ خارج مدار الحكاية. وكل النهايات يمكن أن يقود السرد إليها. وفي «قصة بوح» مثلاً يشرك الراتي القارئ في احتمالات الحكاية، فيقول:
« كنا لا زلنا نحبو على عتبات خجلنا ليلة ارتعاد
كنا على حذر من قصيدتنا أن تصاب بلوثة نسيان
لكننا معا كنا نمتلك أبجدية البوح»

التناقص المفضي إلى حقائق موجعة

غلاف المجموعة بوح آخر؛ فالبحر صندوق أسرار، والشمس شاهدة على كل هذا. والغروب أفول ينبئ بغد آخر، وثمة أحداث حبلى بالجديد، ما دامت الأنثى حاضرة بقوة العتبة غلافا وعنوانا؛ وبقصص كانت البطلة فيها أنثى، والحكايات صبغتها أنثوية، وكأنَّ القاص يعيد طرح، على نفسه، أو علينا، السؤال هو الكاتب الذكّر: تُرى أيبحث عن تضاده أم عن تكامله؟
الواقع/ الغلاف الذي يبدو للعيان حالما إلى أقصى حد ممكن، يقيم علاقة أخرى من التضاد، أو التكامل التي يلاحظها القارئ حين يغوص بين دفتيه؛ ليدرك أن المجموعة تدور في فلك العاصفة التي يغلفها هدوء مزعوم.
ـ « ما هذا الفزع الذي ينتابكم؟.. من أنتم؟..
ما الذي يجري..؟! لا شيء.. الأمور هادئة «.
ندرك هنا أن الراتي هو ذاك القاص المهموم بالواقع وبترسبات تأثيره على ضمير ما زال حياً، وسط أحياء مات فيهم الضمير، كأنما هو دون كيشوت يحارب طواحين الهواء، أو كمن سماه هو نفسه في مجموعته  شبه رجل بيدين، مع اختلاف الأهداف إلا أنه لا يقر بهزيمته، ولا يذعن لواقع الحال، بل يصرخ في الملأ: «لن أستسلم.. عليّ أن أقوم بجولة صيد أخرى.. أود إسقاط المزيد من الطرائد.. سترون..»

التيه وجع أنثوي

الأنثى حاضرة بوجعها القاني الذي يلفها كقماط يكبل سيرها. بينما تسير الحياة لا تتوقف؛ لتضمد جراحها. فهي العانس التي حذفها غياب ضمير الحبيب إلى وجع يتناسل، وهي المرأة الصامدة/ الصامتة تكسرها نظرة وتحييها أخرى، بينهما صمت يوحي بالعبور لمنفى روحي سحيق. يقتل أنوثتها ويضعها جانبا مع وقف التنفيذ، كما في قصة «حينما يصرخ الصمت». يقول القاص:
«ولجَتْ غرفة صمتهما الموغل في الغياب، بدفء قبلة حانية دَثّرَتْ ابنهما بالتبني، خَطفَتْ إليه نظرة شوق وعتاب، ثم جلسَتْ قبالته تَرْسُم على طاولة برودهما جراحا وذكريات.
بكامل أنوثتها، صَبَّتْ له كأسا من القهوة التي يدمنها، علَّ تختُّرَ رغوتها يبعث شغف الوصال، لم يعرها اهتماما، تضاءل جسدها كوردة ذابلة.
هَمْهَمَتْ بعفوية:
ـ « لماذا تلفظ رائحتي من حضنك..؟!، هل قدري تأبّط خيبتي إلى محطة وداع؟!، كيف تَناسَيْتَ بعد عُمْر من سخريتك، أنني آويتك ذات شتاء وتيه؟!»
حَدَجَها بجفاف، ثم دوّت الصّفَعَة الحاقدة، فانكسر زجاج الأمل إلى حبات غمّ وأسى صغيرة».

والأنثى التي يتحدث عنها قصيدة نستمتع بها ونحن نكتبها ونقرأها، ولكن هناك من يتعامل معها بنوع من الغباء، فيرسم نهايتها بتشظيات من ورق، متناسياً عمراً من عطاء. وكأن القاص، من خلال قصصه، يُحمِّل الآخر/ المذكر الذي يلهو بمصائر المؤنث مسؤولية التردّي؛ مبشراً بحزن سيرميه بشرر، بينما يحاول النجاة بنفسه من عبء الاتهام الجمعي. يقول في قصة « نهاية طريق»:
«وكأنها تتساقط تِبَاعاً بين عينيك ككائن ورقيّ، اختصر مسافة نزوله المضني بعد ثلاث زنابق تتفتّح ببطء.
وضَعَتْ حقيبة ملابسها السوداء بغرفة نومكما، وأشرعت بدون استئذان قلبها للتيه، لتتعجل الرحيل دونك.
هَمهمتَ ذات شفاء عاجل، بعد رواية طويلة من نزيف:
ـ بعد عشر سنوات وبقايا قصيدة محظورة، ظننتكِ مسكونة بشغافي، متحرّقة لانطفاء وجعي، لكنك، كم أنتِ هكذا، متقشّفة زيادة عن صواب».
رَمقتكَ بحزن ذابل قائلة:
خذ مفكرة قلبك عنّي وارحل، سأمتهن حرفة النسيان. بكل ما لا نتوقع، فالبدايات تلك التي نفهمها ونتوغل فيها سيرا نحو حتفنا النهائي بإرادة من سِيق إلى حتمية هي نهاية طريق، وبطريقة من امتلك الحكمة ونطقها يقول القاص على لسان بطلته «أرأيت؟! كم هي الحياة سخيفة وضيقة كتابوت معتم ومهجور، تشبعك وردا وخيانة، ثم تتولى هاربة بعد أن تبصم على روحك فجيعتها المشتهاة، فتكون عاشقها الأبدي مكفنا في قماطها إلى أن تسجى في صمت وذهول وبلا رقم.
أرأيت تحمل بين يديك قفازا ملطخا بدماء فوارة ملتهبة إلى جنازة لا شاهد لها، لم تكن تعلم يوما أنها ستكون لك، فكانت لك، وكنت خاسرها الوحيد».

القارئ منتج آخر للنص

استطاع القاص حميد الراتي في مجموعته الثانية «ضمير مؤنث» وتحت مسمى قصص، أن يكون عميقاً، متنوعاً، وفياً للنهايات المشرعة على احتمالات شتى تتنوع بتنوع القارئ، فتنهمر الإجابات شفافة باختلاف قارئـها المتجاوب مع حُرقتها؛ المهتم بخلق هامش من التأثر والتأثير عبر أجوبة تتنوع فتخلق الثراء، استجابةً لنصوص المجموعة التي تنوعت بين القصيرة التي استجابت للوصف، وحملتنا إلى عوالمه التي تخدم النص وتقدمه للقارئ دسماً، والقصيرة جداً التي تميزت بالكثافة والإيجاز. وفي كلتا الحالتين؛ يستمتع القارئ بلغة غنية تنتقل به من فكرة لأخرى من دون أن نلحظ، في معظم الأحيان، أي تعثّر.
لكنّ ثمة نصوصاً في المجموعة تسعى للانضواء تحت إطار القصة القصيرة جداً، بالاستناد إلى الحجم فقط، من دون أن تنجح في ذلك، ومنها نص يحمل عنوان «ظمأ»؛ إذ يتكوّن هذا النص من مجموعة من الأسئلة التائهة بين الحضور والغياب، وبين الحياة والموت، يقول النص: «هل أوغل في العبث يا متعطش الروح؟
هل أرحل مني إلى الغياب، وأنصهر مستسلما لعناية المجهول؟
كم هو غريب ما أتذوقه من بؤس الكلمات كل صباح..
أهي لعنة الموت تحل هكذا دون سابق مشهد أو ألم؟»
وإذا كان هذا النص يحتفل بالاستفهام، بوصفه أسلوباً لغوياً يحرّض القارئ ويثير شهية الخيال لديه، ويشركه في إنتاج دلالة النص، فإن أهم ما يفتقده هو عنصر الحكاية، حيث لا شخصيات تنتقل من وضع إلى وضع آخر، ولا مواقف تتطور، مما يجعل هذه الكتابة تفتقر إلى الشرط الأساسي في أي كتابة سردية.  ونحن هنا لا ننتقص من قيمة النص، ولكننا نلحقه بنصوص الكتابة الشذرية القصيرة جداً التي تملأ ساحة الفضاء الإلكتروني، ولا تمتلك جدارة الانتماء إلى القصة بأنواعها المختلفة؛ بسبب فقدانها الحكاية التي تعدّ شرطاً أولياً وأساسياً في السرد قصيراً كان أم طويلاً.
ويمكن لنا أن نطرح مثالاً آخر على غياب الحكاية، وهو نص تحت عنوان «شغب مؤجل» يطمح فيه الكاتب مرة أخرى، وبطريقة مشابهة، إلى إحلال السؤال الذي هو خيار فني، مكان الحكاية التي هي شرط بنائي. يقول في «شغب مؤجل»:
وكأن جسدكَ المبلّل يؤجّل رغبة انكساره إلى رفات آخر، إلى وطن آخر تراه جميلا ومهملاً أيضاً.
ترحل دوماً لموت جميل يشبهك، وتترك نيران اكتشافك لغز الهروب إلى رغبة خالدة.
هل يخونك قدرك؟
أم أن بوارج خبرتك ليست مستعدّة لقُبلة شطّ جديد، تجده مصادفة يتلكأ بين متاهات تيهك؟
هل أنتَ مجبر على إيقاظ انسحابك إليها؟
هل أنت طيف غياب، أم نهاية عبور إلى شرعية مرفإٍ آخر؟»
ونشير هنا إلى أن الكاتب يتوهم أحياناً، حين يسند للاستفهام الذي تعززه لغة شعرية غنية عبء السرد، فيجعل الاستفهام والشعرية حاضرين في أكثر من سياق، حتى كأن القارئ يخرج من قراءة المجموعة بثقل لا يحتمل من الأسئلة الحائرة التي تبحث عن أجوبتها. وربما كان من الأفضل أن يستثمر الاستفهام في حدود معقولة، ويفيد من شعرية السرد في خلق الحكاية بدلاً من أن تختفي الحكاية وراء ظلالهما كما نلمس في قصة «طلقة بندقية» وغيرها.
غير أن ثمة ملاحظة أخرى لا تغيب عن عين القارئ، وهي حسّ السخرية الذي طغى على أغلب نصوص المجموعة، فالراتي الذي أشعرنا بهموم الوطن والمواطن، وسخر من واقع يبني ديمقراطيته على الأموات، وتعمق في تفاصيل الحياة المُنهكة للإنسان البسيط (المبدع/ البطل/ السياسي….) لم تخنه لغته في معالجة مواضيعه التي عبرت عن التوجس والارتباك والخوف، والهلع العميق الدلالة الذي ينتاب شخصية نسيت النافذة مفتوحة، وغيرها من الموضوعات الأخرى التي توحي بها عناوين القصص التي تجنح نحو الاسمية (رقابة، جثة، زنزانة، مخبر، شاهد عيان)، مما يشير إلى ثباتها واستمرارها، من دون أن يحمل ثبات دلالة الاسم أملاً في التغيير، مستخدماً لكل ذلك اللغة الفصيحة الرصينة، مستعيناً حين دعت الحاجة بالمغربية الدارجة، ليحمّلها دلالاتها المقصودة، فهي لغة سلسلة ساحرة/ ساخرة، تكسر، عن طريق السخرية المضحكة المبكية، ذاك العنف العميق الذي ترسب من مجموع الانتكاسات والهزائم التي مُني بها على مر سيرورة لا تنتهي بالموت، وترسبات تستمر بالوراثة.. يقول القاص في قصة «عشاء من ورق»: « بعد ساعة متأّخّرة من مساء بارد، دلف إلى بيته وبين يديه رزمة كتب ومراجع قد اقتناها لتكملة بحثه.
أضاء مصباح غرفة نومه، وأيقظ زوجته من سباتها العميق قائلا:
ـ « لقد عدت.. هل من عشاء؟!»
ردّت بصوت مضطرب متثائبة:
ـ « نعم.. ضع في الفرن الكهربائي ما اشتريته من كتب، واقْضِم على مهل أوراقها الساخنة».
هذا هو الراتي كما ظهر لنا في مجموعته التي حملت عنوان «ضمير مؤنث»: يحمل على ظهره همومها، ليفصل نفسه عن عموم المذكّر المتحكم المتسلط، وذلك عبر لغة شفافة موحية، تقدّم نصوصاً تحمل عبء الحكاية حيناً، وتتخلى عنها حيناً آخر، لصالح لغة شعرية تحرّض في القارئ شغفا للإجابة، ولكنها تكاد تخرج بعض النصوص من هويتها السردية.

كاتبة مغربية