في حمّى هذا السجال الذي نأى بنا عن الواقع لصالح مطارحات تجريدية, ستنزلق قضايا عديدة الى النسيان، لأن القطيعة بين الدوافع والنتائج هي الإفراز المتوقع لمثل هذه الحالات، فالاهتمام بالعرس وليس بالعريس وبالجنازة وليس بالميت.
وقد تكرر هذا مرارا في ثقافتنا خلال نصف قرن على الأقل، وانتهى الأمر إلى الافراط في تمجيد المجرّد على حساب المُتَعَيُن، فكلما تصاعدت نبرة الإنسانوية جاء ذلك على حساب الإنسان الفرد، تماما كما أن تمجيد العروبة انتهى الى تهميش العربي وازدرائه، وكذلك الإعلاء من شأن فلسطين القضية، الذي انفصل بالكامل عن الفلسطيني، لو استطردنا لوجدنا امامنا متتالية من هذه القطائع، ومنها مديح الثقافة وهجاء المثقف، وحين نقرأ توصيفات سخية للمشهد الثقافي العربي، نادرا ما يقترن ذلك ولو بالحد الأدنى من التحليل الذي يوظف منجزات العلوم الإنسانية للكشف عن ظواهر تبدو أقرب الى الأحجيات لأن الخطاب الاجتراري او خطاب البقرة، كما سماه الفيلسوف نيتشة، يحول دون المغامرة والكشف، إما بدافع من التواطؤ غير المعلن أو فرارا من الاعتراف بالوقائع كما هي، فالحلقة المفقودة حتى الان في داروينية الثقافة العربية هي جدلية التغيير للنسيج الاجتماعي ومجمل علاقاته التي تغذيها الأعراف ولا تحتكم الى أي منطق تطوري. والحداثة بحد ذاتها مثال متكرر في هذا السياق، فهي ما أن انفصلت عن جاذبية التراب والواقع وحتى الجسد حتى أصبحت حفلة تنكرية، بحيث ما أن تكشط الفسيفساء عن الطين، كما يقول مثل فرنسي، حتى يظهر الاتباعي بكامل عافيته تحت قشرة مزخرفة، وقد استوقفني ذات يوم هنري لوفيفر وهو يستخدم مصطلح الحداثة، قال إنه سوف يتكلم عن حداثته او بمعنى ادق عن الحداثة في ثقافته، وليس عن مطلق الحداثة، لأن الحداثة حداثات، كما أن الواقعية واقعيات والبنيوية بنيويات، ولا تؤخذ هذه الظواهر بالجملة بمعزل عن انماط انتاج سائدة، ومناخات سياسية واجتماعية حققت الحد الأدنى من التمدن، لهذا كان من السهل على الحزب العربي او النقابة ان يعودا الى مكونات القبيلة ونسيجها عند اول اختبار، وكأن فائض المكونات الأولى الذي عبر الأزمنة جعل من المستقبل ماضيا قادما او قيد القدوم، وما غاب عنا هو ان المحاكاة عارضة، بل هي متحركة بعدد النماذج التي تحاول اقتفاءها.
ولا أنسى حوارا دار ذات يوم في الرباط بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، فقد شعرت على الفور ان سوء التفاهم بين المساهمين وهم ينتمون الى ثقافتين فرانكفونية وانكلوساكسونية ناتج عن الفارق بين معجمين من المصطلحات، فالمشاركون لم يقرأوا المرجعيات ذاتها، وإنما ما تيسر منها لكل طرف حسب لغته، لهذا لم أتردد يومئذ في القول بشيء من السخرية إننا لسنا مختلفين، فالاختلاف هو بين الفرنسية والانكليزية حول محفوظ، وهنا اتذكر ايضا ما كتبه رولان بارت عن النقد الفرنسي، فانه نقد قومي فهو غير مدين على الاطلاق للنقد الانكليزي او الأمريكي.
***
حين قسم الشاعر ادونيس الحداثة الى ثلاثة انواع علمية وثورية وفنية، اشار الى مسألة بالغة الأهمية في هذا السياق هي، ان الحداثة الشعرية في الغربعلى الرغم من ان حداثة العلم في الغرب متقدمة على حداثة الشعر، وعلى خلاف ما قاله رولان بارت يرى ادونيس ان مالارميه وبودلير أخذا الحداثة عن ادغار الن بو، كما ان ماياكوفسكي الروسي اخذها من الفرنسيين وليس من التراث الروسي، وهذا بحد ذاته يطرح سؤالا اشكاليا حول المثاقفة والتأثيرات المتبادلة بين الحضارات وسياقاتها المعرفية، وحين نقول بأن ماياكوفسكي أخذ الحداثة من فرنسا فالمقصود بذلك المفهوم المجرد والرؤى، فالشاعر لغته روسية بكل موروثها الجمالي، وحين يصف واضع معجم الادب الفرنسي كاتبا لبنانيا بالفرنسية مثل جورج شحادة بأنه احد سادة التعبير بهذه اللغة، فان ذلك اعترافا بأن الحدود والجغرافيا وتضاريسها الثقافية ليست قدرا يتعذر الفكاك منه، ففي فرنسا كان عدد من النقاد الحداثيين والمبشرين بذائقة جديدة قادمين من خارج نطاقها الجغرافي والحضاري، مثل تودوروف وجوليا كريستيفا تماما كما ان ابرز كتاب مسرح اللامعقول كانوا قادمين من بريطانيا وايرلندا .
سبب ذلك ان هناك ثقافات صاهرة وقادرة على الاستقطاب والتمثل ولديها من الانزيمات، إذا صح لنا استعارة مثل هذا المصطلح من علم الاحياء، ما يحول دون عسر الهضم، لكن النقطة الجوهرية كي لا نبتعد كثيرا عن سؤالنا الاول حول القطيعة هي في نمطين من الحداثة، وبالتالي الثقافة بشكل اعم، احدهما بنيوي متأصل ومتراكم وعضوي والآخر على طريقة الكولاج، او ما نسميه احيانا من كل بستان زهرة، ولأن المجتمعات العربية التي تراوح من حيث نظم الحكم بين الباترياركي والاوتوقراطي واحيانا الثيوقراطي، وتراوح من حيث انماط الانتاج بين الرعوي والريعي، فقد كان من الصعب ان يكون هناك مجال لتراكم الخبرات لكن الاستهلاك الذي فاض عن السلعة والدواء الى الكتاب واللوحة والرواية وحتى الرؤية املى شروطه الباهظة، بحيث اصبح هناك على الدوام نموذج يقاس عليه، انه نموذج الغالب المهيمن بالمعنى الخلدوني، لهذا نقرأ احيانا اوصافا والقابا لكتاب وشعراء عرب اقرب الى الكاريكاتور منها، ان الروائي فلان هو بلزاك العرب والشاعر فلان هو اليوت العرب او بودليرهم، لكننا لا نجد مثل هذه الاوصاف الكاريكاتورية في الغرب، كأن يقال مثلا بأن همنغواي هو سومرست موم فرنسا. وكأن ثنائية الريح والنافذة والصوت والصدى والضوء والظلال قدر تاريخي.
*كاتب من الأردن
خيري منصور*