الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، هم السكان الأصليون لهذا البلد االواسع المترامي الأطراف، هذا ما يؤكده معظم الدارسين والباحثين المتخصصين في هذا الموضوع، تعرفنا عليهم في شرخ شبابنا، وريعان عمرنا بواسطة الأفلام الأمريكية، حيث أنتجت هوليوود غير قليل من الأشرطة السينمائية المطولة التي طبعت فترة معينة من تاريخ الفن السابع في أمريكا.
بعض تلك الافلام صورت لنا حياتهم وتقاليدهم وأعرافهم، خصوصا شجاعتهم وبسالتهم النادرتين، ودفاعهم المستميت عن أراضيهم، أمام قوة غازية عاتية استعملت البارود في مواجهة النبال والأقواس والرماح والسنان، كما صورت لنا تلك الأفلام عشقهم للحرية وتعلقهم بالطبيعة وحب الفروسية والتشبث بالتقاليد القديمة المتوارثة. ومصطلح «الهنود» هو مصطلح استعمله لأول مرة المستكشف المعروف، كريستوفر كولومبوس من باب الخطأ، حيث كان يعتقد أنه وصل إلى سواحل الهند عندما نزل في أمريكا، فاطلق اسم الهنود على السكان الأصليين في القارة الجديدة البكر، وقد ألحقت بهم صفة «الحمر» على اعتبار لون بشرتهم التي تميل إلى الحمرة (أنظر مقالي في «القدس العربي» بعنوان : في ذكرى «الأسبنة» أو اكتشاف العالم الجديد: «الموريسكيون» وحقيقة الزخم العربي والإسلامي في الثقافة الاسبانية عدد 7909 بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول2014 ).
أقدم سكان القارة الأمريكية
يؤكد المؤرخون أن الإنسان قد استوطن القارة الأمريكية منذ ما ينيف عن 40 ألف سنة، وأن أقدم أنواع الصخور في هذه القارة موجودة بالذات في أمريكا الشمالية ،وأن أحدثها توجد في جنوب القارة، كما تؤكد الحفريات الأركيولوجية أن سكان العالم القديم استوطنوا هذه الأرض بين 13- و14 ألف سنة، وقد دخلوا هذه القارة عن طريق أمريكا الشمالية خلال العصر الجليدي الأخير قبل أكثر من أربعين ألف سنة قبل الميلاد. في هذه الحقبة من الزمن كانت المنطقة التي تسمى اليوم كندا والمناطق الجبلية، خصوصا الحجرية منها مغطاة بالجليد، ويرى الدارسون المتخصصون في التاريخ القديم أن الاتصال بين العالمين القديم والجديد تم عن طريق خليج أو مضيق بيرينغ، الذي يفصل أمريكا عن آسيا على امتداد 90 كيلومترا، إذ كان هذا الخليج في العصور الجليدية يتحول إلى جسر من جليد يربط بين القارتين، حيث لم يمر عبره ليس الإنسان وحسب، بل كذلك الحيوانات والنباتات، بالذات في المنطقة التي تسمى اليوم الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وجدت آثار وبقايا وحفريات، تؤكد هذه الحقيقة التاريخية، إذ استوطن الإنسان الأول في أمريكا ثم صار يتجه في ما بعد نحو وسط القارة وجنوبها، ثم تلتها هجرات متعاقبة من مختلف مناطق آسيا، وتلك الجماعات المهاجرة المبكرة هي التي شكلت النواة الأولى للسكان الأصليين في القارة الأمريكية، وتعدد الأجناس والأعراق البشرية فيها.
الأواني الفخارية مفتاح الشبه
أول الأعمال الخزفية والفخارية التي تم العثور عليها في أمريكا، يرجع تاريخها إلى 3150 سنة قبل الميلاد، كانت تعلوها رسومات بعض الصور الآدمية والحيوانية والنباتية، وقد وجد علماء الآثار والحفريات شبها كبيرا بين هذه الأعمال الخزفية والفخارية (خصوصا الأواني) وبين الخزفيات المصنوعة في عهود زمنية متقاربة في جزيرة كيوشو اليابانية، فضلا عن الخناجر والرماح وأدوات الصيد والاستعمال اليومي القديم، وقبل وصول الأوروبيين إلى هذه القارة كان الهنود الحمر ينتشرون في مناطق شاسعة من الشطر الشمالي من القارة الأمريكية، مثلما كانت تنتشر في جنوب القارة ووسطها قبائل وأجناسٌ عديدة خلفت لنا حضارات قديمة باهرة ومتقدمة مثل، شعوب المايا والإنكا والأزتيك والموشيك، وكانت تعيش في الشمال جماعات من السكان الأصليين كذلك، حتى إن لم يبلغوا شأو جيرانهم في الجنوب، إلا أنهم خلفوا لنا هم الآخرون إبداعات فنية أصلية وفطرية جميلة تنم عن حس حضاري مرهف داخل بدائيتهم، وأشهر القبائل الأصلية في الشمال الأمريكي هم هنود: الأباشي وسيوكس وأتاباسكوس والهورونيس والهيروكيس، فضلا عن قبائل وشعوب الإسكيمو في كندا.
كان هؤلاء السكان في القديم يستعملون وسائل بدائية مصنوعة من الخشب والأحجار والعظام، التي كانوا يحفرون بها الثرى لاستخراج جذور النباتات وكانت عملية البحث عن القوت اليومي تحتل أكبر قسط من أوقاتهم، كانوا يعيشون على جني الفواكه وثمار الأشجار وصيد الأسماك وكانوا يتنقلون من مكان إلى آخر بحثا عن الماء والكلأ، وأسباب الحياة وبعدهم عن بعضهم جعلهم يتحدثون لهجات متباينة، كانوا شبه عراة يطلون أجسادهم ووجوههم بالأصباغ، وهم مغرمون بالتزين بريش الطيور الجارحة والداجنة على حد سواء، وارتداء جلود الحيوانات التي طاردوها أو قنصوها في مغامرة شجاعة.
فنون فطرية وإبداعات أصيلة
هؤلاء القوم الذين كانوا يملأون الهضاب والسهول والجبال والوهاد، أصبحوا اليوم قلة، لم يعودوا كما كانوا أحرارا طلقاء، وهم ينعتون بالسكان الأصليين، إنهم ذوو حضارة بدائية بسيطة وقديمة، وشاءت المصادفات والأقدار أن يعيشوا اليوم في أكبر البلدان تقدما وازدهارا ومدنية في العالم، بلد التكنولوجية المتطورة والتقدم العلمي المذهل في مختلف المجالات، ومع ذلك أمكن لهؤلاء «البدائيين» الحفاظ على هويتهم وأصالتهم، خصوصا في ميدان الفنون التقليدية الشعبية المتوارثة الجميلة، وهي فنون مستوحاة من واقع حياتهم اليومية وطقوسهم ومعتقداتهم الموحية المعبرة والجميلة، وهي فنون لا تنحصر في صناعة دمى من قماش أونسيج أو جلود أو قفازات، بل تألقت كذلك في صناعة الجرار والأواني والفخاريات والخزفيات، ذات ألوان زاهية وزخارف أخاذة تعلوها رسوماتٌ هندسية وتماثيل صغيرة وصور حيوانات تقليدية وثيقة الصلة بحياتهم وعوائدهم، خصوصا الهنود الذين كانوا يعيشون في المناطق الجنوبية من فلوريدا وجورجيا ولويزيانا ومسيسبي وتينيسي.
كما يجيد هؤلاء الهنود النقش على الخشب والعاج، ويضعون أقنعة عجيبة الشكل تشخص كائنات معينة في معتقداتهم، سواء لدى هنود أمريكا الشمالية، أو كندا، حيث يستعمل سكان الاسكيمو في آلاسكا كذلك تلك الأقنعة في طقوسهم وحفلاتهم. والنقش على الخشب بالذات من الفنون والصناعات التقليدية التي اشتهرت عندهم وهي تدعو للإعجاب حقا. ومن القبائل الهندية التي فازت بقصب السبق في هذه الصناعة هنود منطقة شيروكيس، أما هنود منطقة سيوكس فقد اشتهروا بصناعة الخناجر والمدي والأقواس والرماح والسهام والنبال، إضافة إلى آلات ومعدات حربية بدائية متعددة.
واشتهرت نساء الهنود الحمر كذلك في مناطق عدة بصنع مصوغات يدوية أخرى تميز حضارتهم وإبداعاتهم التي توارثها الآباء عن الأجداد، وكما في مختلف أنحاء العالم، اختصت النساء الهنديات بحياكة النسيج والطرز والزرابي والأردية، وقد اشتهرت في هذا المجال نساء منطقة أوكلاهما كما أن صناعة العقود والعقيان وأشكال متعددة من الحلي البدائية هي فنون اشتهر بها هنود نباخوا الذين مزجوا مهاراتهم التقليدية الأصلية المتوارثة ببراعة الإسبان والمكسيكيين في صناعة وصياغة الفضة، حيث ورثوا هذه المهارة عن تأثيرات المسلمين الأندلسيين التي استقدمها الإسبان معهم إلى العالم الجديد.
مزاوجة الفن والطبيعة
الفنون الهندية الأصيلة في شمال أمريكا فنون عينية، أي أنها تعتمد في المقام الأول على البصر، وهي فنون ضاربة في القدم تشكل سلسلة متماسكة الحلقات للفنون البدائية التي صارت في تطور مطرد حتى اكتسبت درجات ومراحل عليا من النضج الفني التلقائي، وهكذا ظهر من بين هؤلاء فنانون بارعون وهبوا حياتهم ووقتهم بصبر وأناة للأعمال التي أبدعوها ببراعة فائقة، ثم صاروا فيما بعد يعملون على تحسين تقنيات صناعاتهم وأساليب عملهم التي تتميز دائما بطابع خاص متفرد لا يمكنه أن يخرج عن السمة المميزة التي لا تفقد أبدا هويتها الهندية الأصيلة.
إن الرسومات البسيطة الصافية هي ذات إيحاءات موفية، وذات ألوان خاصة وأصباغ حية تتمازج في ما بينها وبين الطبيعة الحقيقية، مما يجعل من الأعمال الفنية الهندية ذات إيقاع وتوازن عجيبين، وتكامل وانصهار بين الرسوم والألوان بعيدا عن أي غموض أو إبهام خارقين غير مألوفين، إنها أعمال تبعث السكينة والانشراح في الناظر إليها، ومن المزايا التي تطبع فنون الهنود الأصليين في أمريكا الشمالية طبيعة هذه الفنون وتقنيات أصباغها، ثم أخيرا وهذا هو الأهم فائدتها، إذ أن أي إنتاجات فنية يبدعها الفنان الهندي هي للاستعمال، وليس للزينة، أي أنها فنون ذات نفع وفائدة، سواء بالنسبة لصناعها أو لسواد الناس، فكل عمل مصنوع من طرف صانع تقليدي هندي ماهر في هذه المناطق له وظيفته ومهمته، وهو عمل تم إبداعه أو صناعته لغاية معينة، وهكذا يصبح مفهوم الفن للفن غير وارد في إبداعات الهنود التقليدية..
وبعيدا عن عقلياتهم في أمريكا الشمالية بالذات، ويرى النقاد في هذا المجال أن القيمة الفنية في هذه الأعمال هي من قبيل المصادفة وغير مقصودة، أي أنها قيمة عرضية عفوية بالنسبة للاستعمال الذي خصصت له كل قطعة فنية. وفي ما يتعلق بالتقنية المستعملة في هذه الأعمال فإنها تتجلى لنا في القابلية والبراعة، اللتين يتميز بهما الفنان الهندي المبدع ومقدرته أو معرفته أو مهارته في تذويب «المادة» و»الشكل» بواسطة استعمال طرق وأساليب بدائية بسيطة إلا أنها ذات نتائج مبهرة ومحيرة، فعلى الرغم من السذاجة التي تطبع هذه الأعمال فهي لا تخلو من جمالية وروعة.
رموز إبداعية
الحديث عن الفنون الهندية في شمال أمريكا يعني الحديث عن عالم حافل بالرموز الإبداعية في هذه الأعمال، هذه الإيحاءات والرموز تشكل نوعا من الأدب المصور أو المكتوب بواسطة الألوان والرسومات والعلامات، وهذا الضرب من الإبداع العفوي أو الفطري لدى تلك الشعوب يعتبر سموا ورفعة وشكلا من أشكال الذكاء الخارق، وأخيرا هو ثقافة راقية، ذلك أن هذه الشعوب منذ عصور غابرة لم تكن لديها لغة مكتوبة، وبذلك تصبح هذه الإبداعات وتلك الرسومات بالنسبة لها مستوى من التثقيف والتهذيب، بل تصبح تفجيرا لما يعتمل في نفس الفنان من عواطف ومشاعر ومخاوف وهواجس وتطلعات، بل ومن سرور وغبطة وغم وحزن، فضلا عن أنها ذات مدلول حي عن الشعائر والطقوس والاحتفالات التي تملأ حياة الهنود.
شعبٌ له تاريخ لم تعد له جغرافيا
إن تنوع وتعدد القبائل الهندية الأصيلة التي قطنت واستقرت في مناطق مختلفة من الرقعة الجغرافية الشاسعة لأمريكا الشمالية، وإن أعمال تلك القبائل والشعوب الهندية وآثارهم الفنية البدائية المتنوعة والحكايات التي تروى عنهم والأساطير التي تحاك حولهم تدفعنا إلى القول إن هؤلاء القوم العزل البسطاء في العيش والملبس والمسكن لهم تاريخ مثل بقية شعوب الأرض، إلا أنه لم تعد لديهم جغرافيا، بل لقد بترت جغرافيتهم ذلك أن الرقعة الضيقة التي خصصت لهم للعيش ومزاولة طقوسهم اليومية وعاداتهم وحياتهم التي تتميز بشظف العيش والخشونة، والمرح والصياح، والفروسية والصيد والطرد والقنص، هي رقعة محدودة جدا بالنسبة لما كانوا يملكونه من أراض واسعة من قبل، حرمتهم من حيزهم الطبيعي الطليق. هذه القبائل والقرى الهندية التي كانت كثيرة العدد ومتنوعة السحن والأشكال لم يبق منها اليوم سوى القليل في مجموع المناطق والبلدان، التي تشكل في الوقت الراهن الولايات المتحدة الامريكية وكندا وجزءا من المكسيك، وقد أصبحت بالتالي محدودة الحرية والحركة والتنقل، وغدت فرجة للسياح الذين يأتون من كل صوب وحدب ليروا بقايا وفلول شعب في طريق الاندثار والانقراض، مثلما تنقرض بعض الحيوانات، وأصناف النباتات، ومع ذلك فإنهم ما زالوا متمسكين بتقاليدهم ومتشبثين بعاداتهم وأعرافهم، مبدعين لفنونهم، وتنتشر أعمالهم الفنية على امتداد الجغرافيا الأمريكية المترامية الأطراف، يقتنيها السياح ليزينوا بها دورهم وقصورهم ومنازلهم، استذكارا واستحضارا لشعب له ماض وتاريخ، ولم تعد لديه جغرافيا، يعيش مشتتا مجندلا مقهورا وسط شعب وافد أصبحت عنده جغرافيا وليس له تاريخ.
* كاتب من المغرب
محمد محمد خطابي*