وجهة نظر حول الدعوة إلى تيسِير النحو العربيّ:

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
خميس, 2014-11-27 08:21

الدعوة إلى تيسير النحو العربيّ ليست جديدة، ومنها دعوة الكوفيين إلى المرونة في تطبيق بعض القواعد النحوية والصرفية التي يتمسك بها البصريون. وقد استجاب مجمع اللغة العربية بالقاهرة-على سبيل المثال- لهذه الدعوة فأجاز الخروج عن بعض هذه القواعد في بعض الحالات- دون التخلي عنها-وسنعطي أمثلة على ذلك لاحِقًا، بإذن الله. لكن الجديد في هذه القضية- وهو في الحقيقة غير جديد بكل ما في الكلمة من معنى- هو ما يطرح في هذه الأيام من أفكار غير موضوعية، في إطار ما أصبح يعرف بظاهرة التعدد اللغويّ في بعض الأقطار العربية وكيفية تدبيرها والتعامل معها في عهد العولمة. وممّا جعلني أصف هذه الأفكار بأنها غير موضوعية، هو أنّ هذه الدعوات ليست بريئة تماما، إذْ يبني أصحابُها آراءهم على مغالطات واضحة لا تخفى خلفياتُها على أحد. والدليل على ذلك أنك ترى بعضهم يركزون طروحاتهم على أنّ اللغة العربية الفصحى غير صالحة لأن تكون لغة العصر، وقد تأكّد ذلك -حسب زعمهم- من خلال فشل التعريب في الوطن العربيّ. والمقصود هنا هو التعريب بمفهومه الشامل، وهو إحلال اللغة العربية محل اللغة الأجنبية في التعليم والإدارة وسائر المرافق الحيوية للدولة. ولو كان هؤلاء منصفين لأرجعوا فشل التعريب إلى أسباب أخرى لا علاقة لها باللغة. وقد تحدثنا غير مرة عن هذه الأسباب، ونبهنا على ضرورة إصلاح التعليم برمته. ونذكر هنا بخُطة إصلاح التعليم التي أعدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بالتنسيق والتعاون مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وأُجِيزت في قمة عربية. وكان من الأولى أن نطالب بتنفيذ هذه الخُطة بدلا من أن نحمل اللغة العربية مسؤؤلية فشل التعليم، وهي بريئة من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف. وقد أشرنا-في مقالات سابقة - إلى أنّ من أسباب فشل عملية التعليم والتعلم، توقف التدريس باللغة العربية عند مستوى الثانوية العامة(البكالوريا) في مجال العلوم، وتهميش اللغة العربية في المجالات الحيوية، ومن ثم ربط مستقبل الناس بتعلم اللغة الأجنبية والعمل بها في الإدارة وفي القطاعين العام والخاص. بمعنى أنّ لقمة العيش أصبحت مرتبطة باللغة الأجنبية. ومن غير المعقول أن ننتظر من الناس أن يهتموا بلغة لا تفيدهم في حياتهم المعيشية. وكان آخر ما سمعته من هذه الآراء غير المنصفة -حتى لا أصفها بأوصاف أخرى- هو أنّ اللغة العربية صعبة ونحوها معقد أكل الدهر عليه وشرِب، وقد آن الأوان للتخلص من الكثير من قواعده...ويتساءل أحدهم، في محاضرة ألقاها في ندوة حول الثقافة والتعدد اللغويّ، لماذا لا نلغي بعض القواعد النحوية التي لا لزوم لها والتي هي عقبة في تعلم اللغة العربية، كالقاعدة الخاصة بتمييز العدد؟. لماذا نقول، على سبيل المثال: ثلاثة رجال، وعشرون رجلا، بدلا من الاستقرار على صيغة واحدة؟ فنقول: ثلاثة"رجل" وعشرون "رجل"! . ثم انتقل المحاضر إلى موضوع آخر يتعلق بعلاقة اللغة العربية الفصحى بالقرآن الكريم، فقال إنّ القرآن الكريم لم ينزل بلغة عربية فصحى...ومن أدلة ذلك-على حد قوله- أنّالتركيب الوارد في الآية الكريمة:(...إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ...) لا يستقيم نحويا!...كما طرح أحد المتدخلين، في أثناء المناقشات التي تلت العروض، فكرة تقعيد(وضع قواعد)الدارجة واستعمالها- بدلا من الفصحى-في التدريس في مستوى التعليم الابتدائيّ، على أساس أنّ الطفل يتعلم هذه الدارجة من محيطه الأسريّ الأمر الذي يجعله يفهم الدروس بسهولة في أول يوم من دخوله المدرسة !

وعلى الرغم من أنّ عددا كبيرا من الحضور- وأنا منهم- قد فندوا هذا الطرح، منوهين بمكانة اللغة العربية الفصحى وقدرتها على نقل العلوم والمعارف ومسايرة التطور، فقد ارتأيتُ أن أعلّق على هذه الأفكار والدعوات المناهضة للغة العربية الفصحى، وأن أرد عليها بطريقة علمية موضوعية تستند إلى الحقائق المجردة. وذلك على النحو الآتي: 

أولا:

بالنسبة إلى تيسير النحو العربيّ ، نشير إلى أنّ مجامع اللغة العربية قطعت-منذ تأسيسها-أشواطا مهمة في هذا الاتجاة نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر:

أ-بالنسبة إلى تنوين الاسم المنقوص، تقول القاعدة: إذا نُوِّن الاسم المنقوص حذفت ياؤه رفعا وجرا، نحو: جاء محامٍ، مررت بمحامِ رأيـت محاميا...وإذا كان معرفا بأل أو بالإضافة بقيت ياؤه، مثل: جاء المحامي، وجاء محامي فلان...فقد أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة إبقاء الياء، بحيث نقول: جاء محامي، ومررت بمحامي، إلخ.  

ب- أجاز المجمع النسبة إلى الجمع مطلقا، بحيث نقول، على سبيل المثال: صُحُفِيّ نسبة إلى صُحُف. مع أنّ البصريين لا يجيزون النسبة إلى الجمع ويشترطون إعادته إلى المفرد، بحيث نقول، على سبيل المثال: صَحَفِيّ نسبة إلى صحيفة، أو: صِحافيّ نسبة إلى صِحافة، إلخ. ويجيز الكوفيون النسبة إلى جمع التكسير، دون غيره من الجموع. وهكذا نرى أنّ المجامع تجاوزت آراء أكبر مدرستين نحويتين(مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة)، وذلك من أجل التيسير. 

وننبه هنا على أنّ استقرار قواعد اللغة (أيّ لغة) ظاهرة صحية، لأنّ هذا الاستقرار يدل على قوة اللغة وقدرتها على الاستمرار من خلال ربط حاضرها بماضيها وباستشراف مستقبلها. ومن ثم فلا مجال للعبث بقواعد اللغة العربية المستقرة، الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ. مع الإشارة إلى أنّ استقرار قواعد اللغة لا يعني جمودها ولا يتعارض مع التطور الذي تفرضه طبيعة الأشياء، ما دامت تفتح صدرها للمفردات والتعابير الجديدة وتتعامل معها بواسطة أدواتها التوليدية المعروفة . ثمّ إنّ تغيير قواعد الكتابة العربية لا يحل المشكلة-إن كانت هناك مشكلة أصلا- بل إنه يعقدها، لأنّ معناه وضع قواعد جديدة تختلف عن القواعد التي تواضع الناس عليها عبر الزمن، ممّا يشوش على المتمكنين من هذه القواعد-في الوقت الراهن-ويمنع الأجيال القادمة من فهم التراث المكتوب بالقواعد الأصلية. ولا شيء يضمن لنا أنّ هذه القواعد الجديدة ستكون أفضلَ من القواعد التي وضعها السلف. ونعتقد- في هذا المضمار- أنّ الذي يجب الحرص عليه، هو تطعيم اللغة الفصحى ببعض المصطلحات والألفاظ الجديدة...بمعنى أن تكون القواعد ثابتة نسبيا والألفاظ متحركة. مع أنّ هذا الثبات النسبيّ للقواعد لا يمنع من إدخال تحسينات عليها-كما فعلت المجامع-بطريقة تحافظ على ما هو جوهريّ، وحتى لا ننزل بالفصحى إلى مستوى العاميّة التي لا تتوفر على قواعد. ومن المعلوم أنّ القواعد النحوية والصرفية من أهم ما يميز الفصحى عن العامية. وأودّ في هذا المجال أن أُذكِّر بالتراتُبِيَّة التي يقترحُها المتخصصون، لاختيار الكلمات والمصطلحات والتراكيب التي تضمن تحقيق هدفين نبيلَيْن هما: سلامة اللغة العربية وانفتاحها على العصر.

أ: الألفاظ والتراكيب الواردة في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والأمثال العربية، والمعْجَمَات  المعتمَدَة، والألفاظ والتراكيب البلاغية المأثورة عن فُصَحَاء الشعراء والكُتَّاب.

ب: الألفاظ والمصطلحات الصادرة عن مجامع اللغة العربية والمؤسسات العربية المتخصصة (مكتب تنسيق التعريب على سبيل المثال).

ج: الانفتاح على ما وَضَعَه الموَلَّدُون و المحْدَثُون من ألفاظ ومصطلحات وتراكيبَ، بعد عَصْر الرِّوايَة الذي هو: آخر المائة الثانية من الهجرة لِعَرَب الأمْصار، وآخر المائة الرابعة لأعراب البَوادِي.

ويَفْرِضُ ذلك الاستفادة – عند الاقتضاء- من المولَّد، والمحْدَث، والمعرَّب والدَّخِيل. وأُذكِّر القارئ الكريم بالفرق بين معاني هذه المصطلحات. المولَّد : اللفظ الذي اسْتُعمِل – قَدِيمًا- بعد عصر الرواية . المحْدَث: اللفظ الذي اسْتَعْمَلَهُ المحْدَثُون ( المتأخِّرون من العلماء والأدباء) في العصر الحديث وشاع في ألفاظ الحياة العامَّة. المعَرَّب : اللفظ  الأجنبيّ الذي غَيَّرهُ العَرَبُ بالزِّيادة أو بالنقْص أو بالقَلْب ليكون مُسْتَسَاغاً وخاضعًا، قدر الإمكان، للأوزان العربية. الدخيل : اللفظ الأجنبيّ الذي دخل اللغة العربية دون تغيير، مثل : الأكسجين، إلخ.

ويرى بعض الباحثين أنَّ تمييز الموَلَّد من المحْدَث، أمر صَعْب لعَدَم الاتِّفاق على سَنَةٍ معيَّنة ينتهي عندها عصر المولدين ويبدأ بها عصر المحدثين، بالإضافة إلى عدم معرفة الوقت الذي ظهر فيه اللفظ المولَّد أو المـُحْدَث. 

وبالاستعانة بهذه الوسائل المتاحة، يتَّضِح أنَّ لِلُّغة العربية ماضيا وحاضرا، ولا بد من استثمار الماضي الموروث والحاضر الحيّ لهذه اللغة. ويقتضي ذلك ربط الماضي بالحاضر واسْتِشْراف المستقبَل. فاللغة الحَيَّة ينبغي لها أن تحافظَ على جُذورها، وتُعبِّر عن الحاضر أصدق تعبير، وتُعِدّ نفسَها للتعبير عن المستقبَل. 

ثانيا:

بخصوص الآية الكريمة التي ذكر المُحاضِر أنها لا تستقيم نحويا، وهي:(قَالُوا إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا)63/ طه.

نرى، في البداية، أنه لا يجوز وصف كلام الله تبارك وتعالى بهذا الوصف. ونلتمس العذر للمحاضر-سامحه الله- فنقول إنّ التعبيرَ خانه. ولعله كان يريد أن يقول إنّ هذا التركيب- من الناحية النحوية- يحتاج إلى شرح حتى يتمكن الناس من فهمه. وهذا ما فعله العلماء من سلفنا الصالح جزاهم الله خيرا. ومن الآراء الواردة في هذا الموضوع ما يأتي: قرأ بعضهم هذه الآية الكريمة: ...إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ....قال بعضهم: إِنَّ الألف تلزم المثنى في جميع الحالات. وفي قراءة مَن قرأ: إْنْ هذان لساحران، إِنَّ(إِنْ) نافية بمعنى(مَا)، واللام بمعنى(إِلَّا) أداة الحَصْر. أو على (إِنَّ) بمعنى: نَعَمْ، وهي لا تعمل شيئا. ولعَلّ الأَصَحَّ من كل هذا، اعتبار(إِنْ) مخففة أبطل عملها وأدخلت اللام على الخبر فرقًا بينها وبين(إِنْ) النافية. والعِلم عند الله.

ثالثا: 

بالنسبة إلى الدعوة إلى تقعيد الدارجة واستعمالها في التدريس في مستوى التعليم الأوليّ !...

من الواضح أنّ هذا الأمر لا يستقيم. وذلك لأسباب عديدة، نذكر منها:

أ-الدارجة ليست منفصلة عن الفصحى، بل إنها(أي الدارجة) أحد مستويات العربية الفصحى. بمعنى أنّ الدارجة ليست لغة مستقلة بذاتها، ولو وضعنا لها قواعد-مع صعوبة ذلك بل استحالته- فستنشأ- لا محالة- إلى جانب الدارجة المقعَّدة، دارجة جديدة  غير خاضعة لهذه القواعد. وسنظل في حلقة مفرغة، نقعِّد دارجة فتنشأ لنا دارجة/ أو دوارج جديدة. ويرى أهل اللغة أنّ للغة العربية ثلاثةَ مستويات-على الأقل- متمايزة. الأول: اللغة العربية الفصحى(المشار آنفا إلى تراتبيتها). الثاني: لغة الصِّحافة(وهي لغة سليمة- بصفة عامة- منفتحة على لغة الألفاظ العامة أكثر من انفتاح الفصحى عليها). الثالث: اللهجة/ أو الدارجة/ أو العامية(سمِّها ما شئتَ)، فلا مشاحّة في الاصطلاح.

ب-لا توجد دارجة واحدة، فما هي الدارجة المرشحة- في رأي هؤلاء- للتقعيد وللاستعمال في التدريس، ما دامت الدارجة تتغير من بلد عربيّ إلى بلد آخر، ومن منطقة إلى منطقة أخرى داخل القُطر العربيّ الواحد؟. مع ملاحظة أنّ لكل أهل صنعة دارجتَهم الخاصة بهم والتي لا يفهمها غيرهم. ولو طبقنا هذه الظاهرة على أيّ بلد عربيّ لوجدنا أنّ دارجة أهل الشمال تختلف عن دارجة سكان الجنوب، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل الجهات الأخرى في الشرق والغرب وفي الوسط، بل إنّ لكل مدينة دارجة قد تختلف عن دارجة المدن الأخرى. وحتى لا نطيل الكلام في هذا الجانب، دعونا نتساءل-مع المتسائلين-هل يُعقل أن نتخلّى عن لغة عالِمة ذات قواعد راسخة، ونُحِلّ محلها دارجة -بافتراض أنّ لدينا دارجة واحدة - ما زالت تحتاج إلى وضع قواعد تسهل التفاهم بين الناس للتعبير عن أغراضهم ؟!. وهل من الحكمة أن نفرّط في هذه اللغة الفصحى الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ البشريّ على مر العصور ونجعل محلها دوارج مختلفة لدرجة التنافر؟!. وهل من شيم العقلاء أن نتخذ-بجرة قلم- قرارا خطيرا بهذا المستوى، يقضي بالاستغناء عن اللغة العربية الفصيحة التي يتفاهم بها العرب كافة- من المحيط إلى الخليج-فيما بينهم، ويتفاهمون بها ويتواصلون مع غير العرب ممّن تعلموا هذه اللغة العالمية بكل المقاييس، والتي هي اللغة السادسة من اللغات الرسمية في الأمم المتحدة وفي العديد من الوكالات والمنظمات التابعة لها؟!

لعل الجواب عن كل ذلك يكمن في جملة واحدة: إنّ هذا والله لهو العبث بعينه. ونذكر هنا بأن أقوال العقلاء وأفعالهم يجب أن تكون منزهة عن العبث...حفِظ الله لغة القرآن الكريم من كيد الكائدين...