بقلم: محمد بتا الشيخ محمد المامي
بنهاية سنوات من البطالة والبحث عن العمل بدأت قصتي معه، التقيته في مكتبه، لم أحمل الأمر محمل الجد لكثرة ما أجريت من مقابلات العمل الوهمية، تحدثنا قليلا في كل شيء، طلب مني إحضار شهادتي الأصلية وأردف معلقا إن رواتبنا زهيدة بالمقارنة، وقع معي عقدا أوليا لمدة 6 أشهر، أجرى لي تقييما شاملا من طرف خبراء الميدان بعد ثلاثة أشهر، فرح كثيرا وأثنى على نتائجه، امتدت الستة أشهر عشرا، ثم وقع لي عقد العمل النهائي، كنت طوال تلك الفترة في سباق دائم مع الوقت لإرضاء شغف عالم محنك وخبير متمرس، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، كنت انحني مفسحا المجال لظلاله المنتشرة، كنت طوال فترة عملي معه أحس مراقبته ومتابعته، فضلا عن تعليماته وإرشاداته وأوامره المباشرة وطلباته اللامتناهية، الكم الهائل من الوثائق والمصادر والمراجع والنظم، أسئلته واستفساراته كل يوم، كل ذلك شكل تحديا ومحفزا نوعيا للتعلم والبحث، تقديره الكبير ومكافآته المجزية، نظراته الصادقة والفاحصة، قدرته على التقييم والتمحيص، سرعة بديهته وقريحته، رصده وتحفظه على أوجه القصور أو النقص وإشاحة وجهه عن اصحابها، نفسه وديناميكيته وإصراره، كل ذلك استنفر جميع قواي وسخرها لخدمة تلك الأهداف التي رسمت بعناية وضمن استراتيجية محكمة.
توطدت علاقتي معه بشكل كبير منذ الأشهر الأولى في الخدمة، بالإضافة طبعا إلى جديته واخلاصه لعمله وسعيه الحثيث لتحقيق أهدافه من خلال الرؤية الشاملة والتشخيص الدقيق والعمل الذي لا ينقطع –تقريبا 14 ساعة في اليوم- فإنه محب للشعر ويتمتع بروح دعابة وفكاهة عارمة، هو كذلك محب لقيم العفو والتسامح فلا يعاقب على الخطأ ولكنه لا يقبل مطلقا تكرار الخطأ، وقد بدرت مني خلال تجربتي الغنية والمفيدة معه –التي اعتبرها أحسن تجربة عملية لي حتى الآن- أخطاء في مناسبات شتى، كنت دائما اعترف بخطئي مباشرة ودون مراوغة، كان في كل مرة يظهر انزعاجا كبيرا لكنه مباشرة يتجاوز الخطأ، بل وحدث نفس الشيء مع بعض الزملاء واحيانا بتسهيل مني، احسست معه دائما بدفء الأب والمرشد والملهم، سواء تعلق الأمر بالعمل أو بالظروف الاجتماعية.
بعبارة أخرى أظهر أبوبكر الصديق قدرات قيادية عالية ذات معارف وعلاقات واسعة ونظرة مستقبلية بعيدة، ذكية، متوازنة، شجاعة ومبادرة، ذات مصداقية وكفاءة وإلهام. أظهر قدراته في خلق الأهداف والقدرة على تحريك العاملين نحوها، من خلال تحفيز الكفاءات، وبناء القدرات، وتشذيب المهارات، وفهم الدوافع، وتطبيق النماذج، وإبراز القدوة، والقناعات، والاهتمامات، والتغيير، والوجهة، والتشجيع، والتدريب، والتدخل عند العجز، والتمكين، والثقة في العاملين، والبيئة المحفزة للعمل، والحرية، والمرونة، والفضول، والتخصص، والأخلاق، والإرادة، والإدارة، والفكر القوي، والرأي الراجح، والقوة الجسمية، والتركيز على نقاط القوة، والبحث عن المساعدة في نقاط الضعف.
مكنته تلك القدرات بالإضافة إلى منحه كل وقته للعمل واستغراقه فيه من تحقيق جميع أهدافه والنهوض بالوكالة الوطنية للطيران المدني من الحضيض إلى ذرى التألق والمجد من بين جميع دول العالم، وهكذا برزت موريتانيا قدوة ونموذجا ذاع صيته في الآفاق متجاوزا بكل ثقة وجدارة الدولة بعد الأخرى والعقبة بعد العقبة إلى أن حصلت في آحدث ترتيب على 85.45 % من المطابقة للقواعد والنظم الدولية للطيران المدني العالمي متربعة على المرتبة الثانية إفريقيا ومتجاوزة ثلاثة أرباع العالم كله، وحصدت خلال هذا المسار العديد من الألقاب والأوسمة.
على كل حال عندما جاء أبوبكر الصديق ولد محمد الحسن إلى الوكالة لم تكن شيئا مذكورا على المستوى الوطني، فضلا عن الإقليمي والدولي، لم يكن لديها الكادر البشري الكفوء والمؤهل للقيام بمهامها، لم تكن لديها النظم والقوانين والإجراءات الكافية، باختصار لم تكن لديها السمعة الطيبة في محيط عملها، كانت تحتضر تحت تأثير نتائج تحقيقات المنظمة الدولية للطيران المدني بنتيجة 32 % تقريبا من المطابقة أي بعجز كبير عن المعدل العالمي المطلوب ( 60 % وقتها)، وكانت موريتانيا في أسفل القائمة إقليميا ودوليا، بل ومحظور على طيرانها استخدام الأجواء الأوروبية. استطاع الرجل بحكمته واختيار فريق عمله تذليل جميع الصعاب وتكسير جميع الحواجز الواحد تلو الآخر، ولم يكتف بذلك حيث حصل في أول تدقيق له على نتيجة تجاوزت 70 % ولم يتوقف ولم يكسل ولم يتبلد، بل واصل بنفس المنهجية رسم الأهداف وتحقيقها وبنفس الحماس وأكثر.
استطاع تحقيق كل ذلك النجاح الباهر من خلال تلك القيم الواضحة والتي تجسدت في القدوة التي ضرب مثلا، كان المدير العام الوحيد في العالم الذي يداوم يوميا أكثر من 14 ساعة، مما ساعد على وضوح الرؤية وإلهام تلك الرؤية المشتركة، وتخيل المستقبل وإشراك الطاقم في الرؤية، وتحدي الواقع والبحث عن الفرصة، وتنمية التعاون، وإعطاء الصلاحيات، والتشجيع، ومكافأة الإنجازات الفردية، والاحتفال بالإنجازات الجماعية، باختصار شديد كانت الوكالة الوطنية للطيران المدني حياته، كل حياته.
فعلا شكل تعيينه وعمله مديرا عاما للوكالة، قطيعة حقيقة مع الماضي، صفعة موجعة للفساد والمفسدين، غدت الوكالة في عهده محط انظار العالم وزينة المحافل ومقصد الخبراء وكعبة المختصين، كان أبو بكر الصديق ولد محمد الحسن كذلك وطنيا بامتياز فقد رفض العرض السخي من المنظمة الدولية للطيران المدني لإدارة مكتبها بنيروبي بعد أن لقبته المنظمة بسوبر أستار لان موريتانيا تحتاجه أكثر.
لا شك انه ابلى البلاء الحسن وانه صدق ما وعد فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وما الزم نفسه في حق وطنه، ولا شك ان فخامة الرئيس بحاجة كبيرة لأمثاله في مواقع أخرى، ولا شك ان ابوبكر الصديق ولد محمد الحسن غيور على وطنه و جدير بكل ثقة. يقودني ألف حب لا مناسبة ولا احتفال فهذي كلها علل.