غيّب الموت الشاعر والاديب الكبير سعيد عقل عن عمر يناهز المئة والسنتين، وهو الذي اشتهر بأنه فيلسوف القومية اللبنانية ومقترح كتابة اللغة العربية بالحرف اللاتيني.
وتمّ في بيروت توزيع نبذة رسمية عن سيرته الذاتية، وفيها أنه ولد في الرابع من شهر تموز/يوليو 1912 في زحلة. وكانت طفولته مليئة بالوَرْد في ظِلّ أمّ مَلاكٍ وفي كَنَفِ والد كان نَهراً من نخوة ومن كرم. فنشأ على كثير من الحبّ والدلال، آخذاً عن أمُّه الطَّهارة، وعن أبيه روح العطاء. أما عن تاريخ بلدته زحلة فأخذ النخوّة والبطولة. وكان الله وهبه إطلالةً فريدةً، ونبوغاً أكيداً، فتمَّت له النعمّة، وَبَرَز متفوقاً في مدرسة الإخوة المريِّـميين في زحلة، حيث بدأ دراسته حتّى أتمَّ قسماً من المرحلة الثانوية. وكان يعتزم التخصُّص في الهندسة، إلاّ انَّه وهو في الخامسة عشرة من عمره خَسِرَ والده خَسارة ماليَّة كبيرة، فاضطرَّ الفتى إلى أن ينصرف عن المدرسة ليتحمّل مسؤولية ضخمة وأعباء بيتٍ عريق. فمارس الصِحافة والتعليم في زحلة. لكنّه استقر في بيروت منذ مطلع الثلاثينَّيات وكَتَبَ بجرأة وصراحة في جرائد «البرق» و»المعرض» و»لسان الحال» و»الجريدة» وفي مجلَّة «الصَّيّاد». ودرّس في مدرسة الآداب العليا، وفي مدرسة الآداب التابعة للأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وفي دار المعلمين والجامعة اللبنانيّة. كما درّس تاريخ الفكر اللُّبناني في جامعة الرُّوح القُدُس وألقى دروساً لاهوتيَّةً في معهد اللاّهوت في مار انطونيوس الأشرفية. كلُّ ذلك بدِقّة وإتقان حتَّى صَحَّ فيه قولُه عن المعلّم:
قَرَأتَ كِتابَ الكَوْن سَطراً مَحَا سَطْرا مُعَلّمُ، عُدْ فاكْتبه أجمل ما يُقْرا
وكان قد قرأ روائع التُّراث العالميّ شعراً ونثراً، فلسفةً وعلماً وفناً ولاهوتاً، فغدا طليعة المثقَّفين في هذا الشرق. وتعمّق في اللاّهوت المسيحيّ حتّى اصبحَ فيه مرجعاً. وأخذ عن المسيحيّة في جملة ما أخذ، المحبّة والفرح، والثَّورة أوانَ تقتضي الحال ثورةً تكون وسيلة للسَّلام. ودرس تاريخ الإسلام وفِقْهَهُ، فحبَّبه الإسلام بأمور خمسة:
■ ان يعرف أنّ الله ليس رَبَّ جماعة دون سواها وانّما هو ربُّ العالمين.
■ أن يُمارِسَ الزّكاة فيُعطي ممَّا أعطاه إيَّاه الله .
■ أن يُردّد كلَّما فَكَرَّ بأمّه أجمل قَول قُرِىء عن الأمّ في كتاب، وهو: «الجنَّة تحت أقدام اللأمَّهات».
■ أن يَنْذَهِلَ بلبنان كيف أنَّه أوْحَى إلى مَنْ يَعرفون أن يُحبّوا، إدخالهَم على الحديث أنّ تُراب الجنَّة فيه من لبنان، وأنَّ عَرْشَ الله مصنوع من خشب الأرز الذي في لبنان.
■ إنْ نَسيَ كُلَّ ما قِيل عن الحبّ في الدنيا كلِّها ألا ينسى كلمة محمد: «اثنان ماتا من وفرة ما أحَبَّ الواحد منهما الآخر يَدْخُلانِ رأساً إلى الجنّة».
ولقد أعطى سعيد عقل ذاته التطلُّب الطَّامح، والرؤية الكبيرة، والتَّعب على شغل شخصيَّته ورَصْفِها مثلما يُريدها أن تكون كما شُغِف بالنَّزعة المثاليّة والرُّوح الترسّلي وانتدب نفسه شأن الكبار في الدنيا لمهّامَّ جُلّى، فأنشَأ سنة 1962 جائزة شعريّة من ماله الخاص، قَدْرُها ألفُ ليرة لبنانية تمنح لأفضل صاحب أثر يزيد لبنان والعالم حُبّاً وجمالاً.
آثاره:
في الثَّلاثينيَّات (1935) أطلع سعيد عقل «بنت يَفتاح» المأساة الشَّعرية، وهي أولى مسرحيات لبنان الكلاسيكيّة ذات المستوى، وقد نالت يومذاك جائزة «الجامعة الأدبية» وفي الثَّلاثينيَّات ايضاً انفجرت قصيدته «فخر الدين» المطوَّلة التاريخية الوطنيّة فبرهنت على أنَّ الشِعر يقدر ان يؤرّخ ويَظلَّ شعراً مُضيئاً، وأن يسرد قِصّة، متقيّداً بالأصول ويظلّ مؤثراً.
سنة 1937 أصدر «المجدلية» التي بمقدّمتها غَيَّرت وجه الشّعر في الشرق، والمجدلية الشّعر قصّة أعطت جديداً، لقّنت أنّ الشعر سكرة كثيفة الجمال ضوئية، جوهرها موسيقى يتّحد بها الشاعر حميماً مع الكون. وهذا ما سيقوله سعيد عقل نفسه في الستّينيَّات معرّفاً الشعر:
الشعر قَبضٌ على الدنيا، مشعشعةً كما وراء قَميصٍ شعشعت نُجُمُ
فأنت والكونُ تَيَّاهانِ كأس طِلىً دُقّت بكأسٍ وحُلْمٌ لمّه حُلُمُ .
سنة 1944 اطلت مسرحيّة «قدموس»، عمارةً شعرية ذات مقدمّة نثريّة رائعة، وبدأ سعيد عقل يكون مهندس النفس في الأمّة اللبنانية، انّ قدموس، لون جديد من الملاحم التي تهزّ ضمير الأمّة وتشكّ لبنان على عرش من عروش الشّعر في العالم، وإن يك سعيد عقل قد سمّاها مأساة .
سنة 1950 أشرقت شمس «رِنْدَلى» وصار الحبّ أحلى، غدا يخصّصُ له ديوانا كاملا، ففي غمرة الشعر التقليدي والغزل الاباحيّ الفاحش ردّ سعيد عقل الى المرأة تاجها، فغدت من بعده تُحبُّ وتُعبَدُ. كَوْكَبَ الغزل النبيل الذي يمكن ان يُقرأ في الكنائس والمساجد. وبعد «رندلى» الشّعر سُمِّيت مئات البنات بهذا الاسم.
سنة 1954 صدر له كُتيّب نثري «مُشكلة النخبّة» الذي يطالب فيه سعيد عقل بإعادة النّظر في كلّ شيء من السياسة الى الفكر والفن.
سنة 1960 صدر كتاب «كأس الخمر» وهو يتضمّن مقدّمات وضعها سعيد عقل لكتب منوّعة، وشهد بها لشعراء وناثرين، مبرزاً مواهبهم، مقيّماً انتاجهم، وناهضاً بالنقد الأدبي وبمقدمّات الكتب الى مستوى نادر في النّثر الحديث.
وفي هذه السنة ايضاً حكى لبنان كما يجب ان يحكى فصدر: «لبنان إن حكى» كتاب المجد الذي يعلّم العنفوان والشّهامة، وينشُر أمجاد لبنان بأسلوب قصصي أخّاذ ومضيء، يترجّح بين التاريخ والاسطورة، ويأسرك بجوّ عامر بالبطولة يستثيرك حتى البكاء.
كما صدر ايضاً كتاب «أجمل منك؟ لا…» حاملاً غزلاً يُصلّى به صلاةً بأسلوب ارتفع الى ذروة المرونة الإنشائية وتنوّع القوافي، كما امتاز بمواكبة التركيب الشعري للموجات النفسيّة في قصائد تشبه السيمفونيّات.
سنة 1961 صدر كتاب «يارا» وهو شعر حبّ باللغة اللبنانيَّة، قصائد ولا اجمل تجمع بين البساطة ومُناخ الخمائل، تُكوكب البال وتسكُبُ خمراً جديدة في كؤوس من زنابق.
سنة 1971 صدر كتاب «أجراس الياسمين» ، وهو شعر يغني الطبيعة بغرابة فريدة وبحدّة حِسّ وذوق.
سنة 1972 صدر «كتاب الورد» وهو نثر شعري ذو نفحات حب ناعمات من حبيب إلى حبيبته، وهمسات حالمات من قلب حلوة «ينغمش» ويمطر ورداً وياسمينا.
سنة1973 صدر كتاب «قصائد من دفترها» شعر حبّ يغني العذريّة والبراءة بكلام من ضوء القمر على تلال لبنان بين الأرز والصنوبر وقد كستها الثلوج يمثل ثوب عروس.
وسنة 1973 أيضاً صدر كتاب «دُلزى» قصائد حُبّ من نار وحنين ناعم إنّه كتاب رائع يُكمل نهج «رندلى» بكَلِم من زَهْرِ الجمر مرّةً، ومن كرِّ الكنار مرَّات.
سنة 1974 صدر كتاب «كما الأعمدة» وهو بعلبكّ الشعر وقد سجلت فيه روعة العمار، ودقّة الجمع بين الفخامة والغِوى. ذروة الكلاسيكيّة التي لا تشيخُ، مرصّعةً ببعض اللُقى واللمَع الرمزيّة. وإنَّك لتشهد في هذا الكتاب تخليداً لكل شاعر تكَّم عنه سعيد عقل. وفي هذه القصائد يتحدّى سعيد عقل نفسه مرّة بعد مرةٍ فيعلو على ذاته بخيال يسابق خياله ويمزج بين التراكيب الفصحية وتراكيب اللغة اللبنانية احياناً. مما يقرِّب شعره من الحياة ويمنحه نكهة جمالية فريدة.
والأعجب في هذا الكتاب أنَّه يرفع المناسبات العاديّة إلى سماء البال وأجواء الشعر اللبناني.
ومن كتبه كتاب «خماسيَّات» وهو مجموعة أشعار باللغة اللبنانية والحرف اللبناني وقد صدر سنة 1978 .
وكتاب «خماسيّات الصبا» باللغة الفصحى، وقد صدر سنة 1992. وهذه الخماسيّات باللغتين اللبنانيّة والفُصحى تمثّل ذُروة الكثافة في المضمون ، كما تمثّل التفرُّد العالمي في الشّكل الشِعري الذي يَحبِسُ جزءاً من عمر في عبارات لا طويلة ولا قصيرة. وإنّما هي بمعدّل ما يتوقَّعها السَّمع تنتهي فعلاً ويرتاح الشّاعر حين تنفجر.
وهذه الخماسيات هي في رأيي مستقبل الشّعر الذي يحمل في جوهره شيئاً من الذريّة الهائلة.
سنة 1981 صدر لسعيد عقل ديوان شعر باللّغة الفرنسيّة اسمه «الذَّهب قصائد» وهو كتاب جامع يحمل خُلاصة ما توصّل اليه فكر سعيد عقل في أوْجِ نُضجه. ولعلَّه الكتاب العالميّ الذي سيردّ الى اللغة الفرنسية عظمة تفوق عظمة بول فاليري وما لارمه وسواهما من شعراء فرنسا الكبار .
ولسعيد عقل عدّة دواوين مخطوطة وجاهزة للطَّبع، وهو كُلّما زاد في العمر عاماً زاد تألُقاً وعطاءً، وأروع ما يلّخص مطامح سعيد عقل قوله :
اقول: الحياةُ العزمُ، حتى إذا أنا انتهيتُ تَوَلّى القَبرُ عزمي من بَعدي.
شهادات عربية في رائد الفصحى والعامية:
«القدس العربي» استطلعت آراء عدد من الأدباء والشعراء في لبنان ومصر والعراق، والذين عبّروا عن حزنهم لرحيل هذه القامة الشعرية الكبيرة.
فكانت الشهادة الأولى مع الشاعرة والفنانة التشكيلية اللبانينة باسمة بطولي التي سألت مستغربة:
«أعزيّ ؟ أجابت: لا.. كيف نعزي بمن رحل، باقياً ولا يرحل، لانّ سعيد عقل متجّذر في ذاكرتنا وفي تاريخنا وفي تاريخ لبنان وفي حاضره، كما سيكون في مستقبله.
أضافت الشاعرة باسمة بطولي في حديثها لـ»القدس العربي»: صحيح أننا نشعر بأنّ جزءاً منّا قد رحل وأنّ أرزة كبيرة قد يبست وأنّ قمّةً من قمم لبنان قد هوت، لكّن سعيد عقل من الخالدين بكّل ما يعنيه اسمه من إبداع شعريّ يمّد جذوره في حضارات العالم، وفي ثقافة غنيّة تحمل القيم الإنسانية.
ورأت الشاعرة باسمة بطولي، «أنّ سعيد عقل هو فخرّ للغة العربيّة التي خدمها وخدمته، فكان لنا إرث لا يفنى، وكان لنا إعجاز يمتّد من أعماق القرآن الكريم إلى أعماق المسيحيّة، وهو من دعاة المحبة والكبر وقد حلم بلبنان جميل كانت جذوره تشرب من المدن السبع العريقة.
أضافت بطولي: هذا الـ«لبنان» سنظلّ بروح سعيد عقل نحلم به ونعمل في سبيله، معتصمين براية الشعر الجميل التي رفعها طوال عصرٍ بكامل وسيرفعها ونرفعها معه في الزمن الآتي، أملاً كبيرأ بتحقيق كلّ ما نحلم به من قمم ضاربة في التسامي.. قمم الجمال وقمم الحق وقمم الخير وكلّ ما فيها من غنىً ومن انسانيّة نريدها أن تمتزج باللأولهة».
الشاعر اللبناني نزار فرنسيس عبرّ بدوره عن أسفه لرحيل العملاق الكبير سعيد عقل، الذي وصفه بأنه أرزة عتيقة رحلت من لبنان وأكّد فرنسيس أنّ سعيد عقل ربّما هو الأكبر أدبيّاً وفكريّاً وهو رجل يحتوي وطناً.
واعتبر فرنسيس أنّ رحيل سعيد عقل خسارة للأدب العربيّ وللشعر كما هو خسارة للبنان ولفينيقيا .
ورأى «أنّ موت سعيد عقل هو موت لـ 6 آلاف سنة من الحضارة.. وأضاف هذه السنة آلاف من الحضارة خسرت سعيد عقل. وأوضح فرنسيس أنه لا يسعه التعبير عمن هو سعيد عقل «لأنّ الحروف تعجز عن التعبير عن سيّد الحروف»، لافتاً في الوقت عينه الى أنّ الشعر يطوي جناحه مثل عصفور صغير لا يستطيع أن يطير أمام النسر».
كائن أسطوري
من جانبه عبر الكاتب وسام سعادة عن دهشته من ردود الفعل التي واكبت نبأ الرحيل على شبكة التواصل الاجتماعية «فيس بوك» مؤكدا « في جيل الناشئة الفيسبوكي، وهو يصل الى سن اربعين او خمسين عام، انهم ينظرون الى كل سعيد عقل من خلال تصريحاته المؤيدة للاجتياح الاسرائيلي للبنان من دون الاطلاع على غير ذلك من امور. مثلا شعاره في حرب السنتين «على كل لبناني ان يقتل فلسطينيا».
ثم الصراع الذي انفجر بينه وبين مي المر من هو الاصلح للذهاب الى اسرائيلللامتاع والمؤانسة مع أكابر سياستها وثقافتها. واذا كنت ارجع الى هذه الاشياء فليس لاختزال كل شي في احكام قيمة متوترة ازدهرت اليوم. فما قام به المسيحون باكثريتهم ومنهم سعيد عقل في مرحلة الاجتياح الاسرائيلي للبنان هو كارثة وطنية حقيقة وكارثة لهم ايضا. ويضيف سعادة « ما يهمني اكثر هو ان سعيد عقل في موقفه من بيغن كانت عنده خصوصية انه يعيش الاسطورة تماما.
لم يكن كحال انور السادات او بشير الجميل بازاء بيغن. بيغن الذي تكلم عنه سعيد عقل هو ايضا كائن خرافي. كائن يأتي بعد الاف السنين ليسدد دين مملكة اسرائيل القديمة لاحيرام ملك صور، على الاخشاب المستخدمة لبناء هيكل سليمان».
قطعة من جمال لبنان سقطت
نائب مدير جامعة سيّدة اللويزة الشاعر اللبناني سهيل مطر تحّدث بدوره لـ»القدس العربي» عن رحيل العملاق سعيد عقل، الذي رأى أنّ رحيله يعنيه جّداً، لافتاً الى «أنّ شيئاً خاصاً فقده لانّه لم يفارق سعيد عقل منذ ما يقارب الخمسين سنة، اضف الى ذلك أنهّ موجود معه في جامعة سيّدة اللويزة منذ 25 سنة، حيث كان يلتقيه كلّ صباح ليدخل معه الى الصفّ، حيث كان ينتظرهما الطّلاب، واضاف مطر قائلاً :»كم كنت أشعر بأنّ طلاّبنا كانوا يفخرون أنّ رجلاً بحجم سعيد عقل هو معّلمهم وهو قدوة لهم».
واضاف مطر لـ«القدس العربيّ» أّنه عندما ينعى سعيد عقل يشعر وكأنّ قطعة من جمال لبنان قد سقطت، ولكنه مؤّمن بأنّ هذا الرجل ترك لنا طلاّباً كثيرين ومحبيّن يستطيعون أن يتابعوا مسيرته ومن هنا ختم قائلاَ:»انّ سعيد عقل شاعر وأديب ومفّكر ورجل حوار هو نموذج لكلّ واحد منّا».
روح لبنان وصوتها
يقول الشاعر المصري مؤمن سمير: إن من أكثر ما تردد في لبنان بلاغة في الساعات الماضية مقولة إن قدرنا كلبنانيين أن نُصَدِّر الكبار إلى السماء.. هذا بمناسبة خسارة أسطورة الغناء والحب صباح وأسطورة الشعر سعيد عقل في يومين متتاليين. الاثنان عمَّرا طويلاً فعاش على ضفتيْهما أجيال واجتمع عليهما فرقاء وأضداد.. وكيف لا يبهرك شخصٌ متسعٌ مثل سعيد عقل يدرس اللاهوت المسيحي ويصير مرجعاً فيه، ثم يدرس الفقه الإسلامي بتعمق المتخصصين.
كيف لا تفتن بفيروز وهي تشدو «غنيت مكة» من كلماته؟
حاولت كثيراً أن أراه شاعراً وفقط لكني فشلت – رغم تميز قصائده التي تحرض على الحياة في حد ذاتها – هو شاعر لبنان ولبنان دمه ونسيجه وهواؤه لدرجة التوله: تبشيره بـ«الخاصية اللبنانية» والقومية اللبنانية في مواجهة كل الخصوصيات الأخرى.. في مواجهة الكون كله.. كان يكتفي من الحياة بلبنان ويختصر الحياة في لبنان.. كذلك دعواته التي عدها البعض تطرفاً للعامية اللبنانية، واعتبارها هي المستقبل.. تأسيسه لجائزته عام 1962، لأفضل من يأتي بلبنان في ثوبها القشيب.. حتى دعاهُ الحب الذي بلا حساب للموقف الملتبس الذي لُعن بسببه وهو تأييده للهجوم الاسرائيلي على لبنان، نكاية بالوجود العسكري الفلسطيني في لبنان.. لكن في النهاية مَنْ في جيلي والجيل السابق ينكر أننا قضينا شبابنا مع «زهرة المدائن» و«يارا» و«بحبك مابعرف» و«أمي يا ملاكي» من بحره لضفاف فيروز.. ومن يستلهم هذه الروح العارمة، ثم يدعي أنه لن يبقى من أشعاره العمودية الملتزمة/ المنفتحة قصائد تدعو للحب والحياة ..
مات سعيد عقل فماتت صفحة كاملة من دفتر لبنان الكبير: الشعر والغناء والحرب والحب والتسامح.
لغة خاصة وعالم رحب
ويرى الشاعر المصري الشريف منجود، أن الشاعر الكبير الراحل يمثل أحد النماذج الشعرية العربية، مثله مثل الشاعر العراقي الجواهري، ربما لامتداد العمر بهما ومعاصرتهما كثيرا من الأجيال، وبناء الشعر العمودي، كما أن عقل شاعر يملك لغة خاصة به صنعها عبر زمنه الممتد، وفلسفة للوجود حوله، مرن قدر المستطاع، فالكثير من أعماله تشكل بين اللهجة اللبنانية والفصحى العربية فكتب بهما، وأبدع من خلالهما، كما أن له مسرحيات درامية ربما تحتاج إلى دراسة في المستقبل للكشف عما قدمه هذا الشاعر، إلا أنني أريد أن أؤكد شيئا لا يمكن أن ننكره، وهو أنه ربما تجد كثيرا من أبناء جيلي لا يعرفه، إلا من خلال تلك القصائد التي تغنت بها فيروز، غير أن عقل نموذج يجب دراسته والكشف عن صوره الشعرية، وأتذكر له بيتا يصف به بلده لبنان وأراه يصف به كل بلداننا الغالية يقول: «أنا إن أودعْتُ شِعْـري سَكرَةً ….كنتِ أنتِ السَّكبَ أو كُنتِ المُدامْ».
الرمزيّ الذي يعبد اللغة
ويضيف الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم بشهادته عن سعيد عقل قائلاً … تعوّدت طيلة حياتي أن أفصل بين الشاعر كشخص وجسد وثقافة الشاعر كقصيدة وروح وجماليات، فالشاعر مؤقّت وطارئ ويوميّ، أما شعره فباق ودائم وسرمديّ، ومن هؤلاء الذين يثيرون هذا الالتباس كان الشاعر سعيد عقل، لا يهمّ الآن أن نذكر ما قال أو فعل أو أيّد أو أدان أو بشّر أو حتى أجرم، فليس لنا إلا شعره، وشعره كان أنيقاً ولغوياً بامتياز، روح كونية ذائبة في المتعة وحسية رائدة، عاصر صلاح لبكي وأحبه، وربما تأثّر به في الأناقة اللغوية والحسية العلوية التي ترى العالم نسيجاً ليناً من النشوة، عاش حياة طويلة لم تُتح لغيره، ما يزيد عن قرن، وفعل ما أراد من كلّ شيء، حلوه ومره، خيره وشره، علانية وسراً، بفلسفة أبيقورية لذائذية، انظر مثلاً في «رندلى» أو «دلزي» أو «كتاب الورد» أو «كأس الخمر»، لترى شاعراً يمزج الأساطير بمعرفة متراكبة، وبرمزية فائقة، حيث هو الشاعر العربيّ الوحيد الذي يمكن اعتباره «الشاعر الرمزيّ»، وغيره كتب بدرجات، لكنه أخلص لفكرته كبلورة سحرية، يقول مثلاً: «على يدي يلهو القدر، وإن أنا أسقطت من علٍ ثوباً فما شمس ولا قمر». عموماً، سيرتاح الناس الآن من سيرته الشخصية، بكلّ ما فيها، وفيها الكثير، لكن لن يلتفت الناس من بعد إلا إلى ما خطّت يداه، وهو يشعّ جمالاً وجرأة وحرية وكلّه شعرية خاصة جداً، أفاد بها شعراء آخرين، وأنا منهم، وسيفيد بها آخرين إلى أمد بعيد.
تداعيات حول سعيد عقل
ويدلي الشاعر عبد المقصود عبد الكريم، بانطباعه أو تداعيات لما حدث … عام مات في بدايته أنسي الحاج (18 فبراير/شباط) ومات في نهايته (28 نوفمبر/تشرين الثاني) سعيد عقل، جدير بأن يوصف ببساطة بعام موت الشعراء. أنسي الحاج وسعيد عقل في عام واحد. الاثنان تتجاوز قيمة كل منهما ما كتب، تجاوزه بكثير؛ فقد نثر كل منهما بذورًا ربما تظل تثمر لعقود وأجيال قادمة، وربما لا تكف عن طرح ثمارها. وضع سعيد عقل بذرة الرمزية في الشعر العربي، ويمثل أنسي الحاج أبدع ثمار الحداثة في الشعر العربي. يتميز الاثنان بجرأة نادرة في تبني الأفكار وإنتاجها، وفي الإيغال في طرق لم يطرقها أحد من قبل في الشعر العربي.
منذ شهور قليلة كنت أترجم المجلد الخاص بتاريخ الأدب العربي الحديث ضمن موسوعة كمبريدج عن تاريخ الأدب العربي، المجلد صدر في 1992، ويوثق عادة تاريخ الميلاد وتاريخ الموت، وأمام تاريخ ميلاد سعيد عقل (1912-) بحثت عن تاريخ موته، الرجل لم نسمع عنه منذ زمن، وربما مات، لكنني لم أعثر على مصدر يفيد بموته، وسألت وعرفت أنه لا يزال على قيد الحياة، وكانت مفاجأة، واليوم مات، ويمكنني الآن ببساطة أن أكمل ما بين القوسين (1912-2014). مع نشر قصيدة سعيد عقل «المجدلية» في 1937 وصلت الرمزية العربية إلى ذروتها في ثلاثينيات القرن الماضي، مرتكزة على الرمزية الفرنسية.
وقصيدة «المجدلية» تعتبر أفضل مساهمة شعرية لسعيد عقل في الرمزية وهي قصيدة طويلة رائعة موضوعها لقاء المسيح ومريم المجدلية، ويصدرها بمقدمة تتأسس على كتابات الرمزيين الفرنسيين، مالارميه وبول فاليري والأب هنري بريمون. لقد استطاعت التجربة الرمزية على يد سعيد عقل، وكان مولعًا بالمثالي والجميل، وأعطى قيمة كبيرة منحت لموسيقى الكلمات، أن تلهم الشعر العربي الحديث في استكشافه للغة.
قصيدة باقية
ويرى الشاعر المصري شريف الشافعي بداية، أن الحديث عن شاعر لا يكون إلا من خلال شعره فقط، فبغير جناحين أصيلين لا يحلق طائر. ورهان مبدع ما على وسائط غير فنية كالسياسة مثلا أو الإعلام أو ما شابه لا يُعليه قيد أنملة عن القدر الذي يستحقه كمبدع. ومحاولات إطفاء جذوة شاعر أو أديب بعوازل من غير الحقل الفني، كالسياسة أو الإعلام أيضًا، لا تحط من قدره قيد أنملة. انزعجت وأنزعج، من كثير مما يتردد الآن بعد رحيل الشاعر سعيد عقل، فهذا يتذكر من هنا موقفًا سياسيًّا للشاعر، وذلك من هناك لا يرى فيه غير مقولة ما سياسية أيضًا رددها الراحل منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بل وثالث
يجعل من وفاته مدعاة للسخرية والتشفي.
قصيدة سعيد عقل باقية، شئنا أم أبينا، اتفقنا معه في آرائه ومواقفه أم لم نتفق. هو وتد من أوتاد الحركة الرومانسية وما بعدها من شعراء لبنانيين وعرب وصلوا بالقصيدة إلى قربها من المتلقي، وصفائها من الشوائب، وشيوعها اليومي، سواء عبر الغناء، أو من خلال بساطة وتلقائية من مجالات الحياة، وتفاصيل ما يكابده العاديون.
فنان المخيلة الكبير
ويرى الشاعر والناقد عبد الله السمطي أن سعيد عقل – رحمه الله- من أروع الشعراء الذين تعاملوا بحرفية وألق مع القصيدة.حاول قدر طاقته وشعريته أن يستفز الكلمة الأنيقة لكي تبدع ما في غوالي أخيلتها ومعانيها وطاقاتها.. سعيد عقل نسيج وحده في الشعرية العربية المعاصرة، لعب كثيرا على المنمنات الشعرية، على التطريز، والتركيب الجمالي الفسيفسائي المدهش، وقدم حالة شعرية راقصة لا تتوانى عن تقديم المبدع والفذ، خاصة في «أجمل منك لا» و»رندلى» و»قدموس» وقد أثر شعره في شعراء كثيرين على رأسهم نزار قباني. سعيد عقل رائد كبير ومجدد كبير وفنان المخيلة بلا منازع.
شعراء عراقيون: سعيد عقل بداية جيل الرومانس الأدبي والسياسي
مُرخىً على الشعر شالْ
لرندلى
هلا هلا
به بها بالجمالْ
من يا حَبابَ الكؤوسْ
من جمّلك
من فصلّك
حلواً كحلم العروسْ
في أحد الحوارات الصحافية مع الشاعر والموسيقي الراحل منصور الرحباني، سأله الصحافي عن القصيدة التي كان يتمنى أن يكتبها، فلم يفكر الرحباني بما سيقول، بل صرَّح مباشرة بأنه لو كتب قصيدة (شال) لسعيد عقل لكانت كفته كل الشعر الذي كتبه والذي سيكتبه مستقبلاً..
لم يكن كلام منصور الرحباني، وهو الشاعر الذي أسس مع أخيه عاصي أهم مدرسة غنائية عربية؛ مدرسة الرحابنة، عابراً، فسعيد عقل يعدُّ من الشعراء الذي أضافوا للشعر العربي؛ بفصيحه وزجله، روحاً جديدة من خلال اللغة القريبة للناس والأوزان الشعرية التي يمكن أن تطرب الأذن وتغنى في أي مرحلة كانت.
يعدُّ عقل من أكبر دعاة القومية اللبنانية وقد ساهم بشكل كبير في تأطير فكرها الإيديولوجي من خلال التركيز على «الخاصية اللبنانية»، إذ انه في سنة 1972 كان من مؤسسي حزب التجدد اللبناني، كما كان يعتبر الأب الروحي لحزب حراس الأرز الذي يتزعمه إتيان صقر.
وعلى الرغم من أن سعيد عقل كان معنياً ببلده لبنان، وبقضاياه، غير أن تأثيره على البلدان العربية كان واضحاً، فالعراقيون؛ مثلاً، كانوا ينظرون لعقل على أنه نموذج للبساطة الشعرية وتمثلاته التجربة الجديدة في استخدام المفردات اليومية في القصيدة. لهذا شكّل رحيله لدى العراقيين مفاجأة لم يكونوا يتمنونها على الرغم من ظهور مدارس وأجيال أدبية عدَّة:
أجراس اللغة التي لم تقرع
يشير الشاعر الدكتور علي مجيد البديري إلى أن عقل سعى في قصائده إلى أن يؤدي الشعر دور المغذي الفاعل للغة، وكان هاجس النزوع نحو المغايرة في التعامل مع اللغة مهيمناً على تجربته بعد قراءته لشعراء الرمزية وتأثره ببعضهم، ولا يمكن فهم هذا الموقف من لغة الشعر بمعزل عن خصوصية حياة عقل، وطبيعة السياق الثقافي لأفكاره ومواقفه. فهو من كان يصر على ضرورة أن يكون الوعي بالعالم قائماً على الحدس والرؤية اللامنطقية. وتجلى ذلك في شعره عبر إفراغ اللغة من علاقاتها الأليفة، ويمحو عنها طبيعتها المستقرة، ثم يمنحها إمكانية التحول إلى ما يريده لها من صور وطبيعة. ويضيف البديري أن اللفظة لدى عقل تأتي في صورة تترك القارئ فيها قلقاً، غير مطمئنة إلى دلالة محددة، فالركون إلى دلالة تقليدية مألوفة لا يتقدم بالقارئ بشكل سليم نحو ما يريده النص، وهو ما سيجعل من مسألة الاطمئنان لدلالة محددة أمراً بعيداً، ويفرض على القارئ التخلي عن فكرة وضع حد نهائي يستنفد الدلالة ويغلق إحالاتها. «غير أن ما لا يتخلى عنه القارئ بأي حال من الأحوال في قراءته للشعر ارتباط اللغة بفاعليتها الاجتماعية قبل دخولها فضاء التعبير الشعري، بل إن انزياح هذه اللغة عن المنطقي والمألوف من صورها يؤكد ضرورة مثول هذه الصور مكوناً رئيساً في عملية القراءة، وهو ما سيشكل في ما بعد موقفاً متحفظاً من بعض أنماط الصورة في قصائد عقل لدى فئة عريضة من القراء، غير أنني ما زلت أستمتع حتى اللحظة بوقوفي طويلاً أمام صورة غريبة من مثل:
تتّكي رحمة العلى بجفنيــه
اتكاء السنا بحضن البريه
لأنني أمام سعيد عقل».
طفل القصيدة
الشاعر خضر خميس يرى في رحيل عقل رحيل طفل القصيدة وهو يتسلق عامه الثاني بعد المائة. اليوم هل ترثي هذه الكلمات أحد عمالقة الشعر العربي الذي رفد المكتبة العربية والعالمية بدواوينه الشعرية (الفصحى والعامية) بعد هذه المسيرة التي غاصت في تلافيف الاعوام؟ «اليوم اسمع نشيج المطربة اللبنانية ماجدة الرومي وهي تنعاه عبر حسابها على مواقع التواصل الاجتماعي (حلمك حلم لبنان. رسمك بجوار الغمام قطع زمرد ركزها على حدود السماء.. سعيد عقل.. سوف تبقى)… بعد سماعي نبأ غياب هذا الرمز الكبير فتحت (تويتر) لأقرأ عبارة الرئيس سعد الحريري (لبنان والعرب خسروا اليوم أحد عمالقة الشعر.. رحم الله سعيد عقل)».. ويضيف خميس: نعم الرثاء بالكلمات لا يكفي لهذا الجبل الأشم. لقد تأبطت الكلمات التي صدحت بها فيروز مسلة البكاء ليكون نشيجها مسموعا وهي ترتل «زهرة المدائن، وغنيت مكة، وسيف فليشهر، وأحب دمشق، ويارا، وقصيدة مشوار). «ها أنت أيتها الفيروزة.. لقد أشعلت قافية الفن نشيجاً عالياً وأنت تصدحين بغنائك للأردن من القصيدة التي مطلعها:
أردن أرض العزم أغنية الظبا
نبت السيوف وحد سيفك ما نبا
هذه الكلمات صدحت بها أيضا النجمة زين عوض في مهرجان جرش لهذا العام.. كم أنت كبير يا سعيد عقل.. اليوم لا نتحدث عن أدونيس متأثراً بقصائدك الأولى، ولا نتحدث عن الكم الهائل مما تختزنه من كهنوت وفلسفة وعلم وأدب… اليوم سوف ترثيك القصائد التي كتبتها أنت.. ولسوف يرثيك ديوان العرب… أيها الماسك أعمدة الحداثة والفن بشعرك ووطنيتك لتكون شوكة في عيون أعدائنا… جذلى لك أيها الرمز العربي والفني والشعري.. ولسوف تبقى حياً في ذاكرة التاريخ وأنك ما غبت إلا شخصاً وبقيت حاضراً أدباً وشعراً وعبقريةً..».
ماذا بعد عقل؟
حسبما يرى الشاعر والتشكيلي مازن المعموري، أن سعيد عقل يتشكل في الذاكرة العراقية في صورتين مهمتين هما: التيار القومي المتشدد، والذاتية الليبرالية، ذات التأثير الرومانسي للمجتمع العربي في عصر النهضة مع بداية القرن العشرين وتبلور حركات التضاد مع الكيان الصهيوني مذ عام 1948، لكن الصورتين وضعتا الذات العربية بمعناها الشمولي أمام خوف حقيقي لمستقبل غامض يمكن تلمسه في النصوص الشعرية قاطبة من دون استثناء، بما يشكل قلق المشروع الحداثي العربي والبدء بتنازلات مدمرة لصالح المشروع الديني المتشدد. ولكن على المستوى الأعمق للظاهر نجد سعيد عقل ينحاز لـ«لبنانيته» تفادياً لنكوص التعددية والقبول بالآخر في مجتمع منفتح مثل لبنان، بل نستطيع القول إن سعيد عقل كان بداية جيل الرومانس الأدبي والسياسي أيضاً.
مضيفاً أنه ليس من شك بعد ذلك أن نرى سعيداً وقد مثَّل روح الطبيعة اللبنانية في الشعر الغنائي الذي برز كخطاب مرحلة حملته حنجرة فيروز وذاكرة شباب الستينات من عمر الطفولة النهضوية العربية ورومانسيات الحب التي انطوت على هوية لبنانية وليست عربية، تفادياً لمد الإسلاموية المتشددة في ما بعد (بما أنه مسيحي)، وقد انعكس هذا الانطباع على نصوص السياب التي اكتنزت بالكثير من تمثّلات الطبيعة العراقية برمزيتها السياسية، فأصبح النخيل ونهرا دجلة والفرات وبويب وغيرها من التفاصيل الجغرافية مهاداً لانطلاق الرومانسية السياسية التي وشحت كامل المرحلة بالانتماء الهوياتي المحلي تحت تأثير شاعر لبنان الأكبر سعيد عقل. «يرحل اليوم سعيد عقل ليغلق باب حلم عتيق أنجبته فورة النهضة العربية القومية بكل تشكلاتها وانعطافاتها، ونحن نفتح عيناً على ذات الواقع الغريب لأمة لم تعد كما كانت (لبنان أو غيرها) صالحة لنمو عشبة الحياة ولم يعد كلكامش هائماً في غابات الأرز ليتعلم من خادمة الحانة درساً جديداً لشعب أوروك.
خلخلة النسق الشعري
في حين يقول الشاعر غسان حسن محمد أن للموت أثره الفجائعي على كل إنسان.. لكن أن يبسط سطوته على قامة شعرية كبيرة كسعيد عقل الذي منح الكلمة إهابها وأفاض على الخريطة الشعرية العربية بصور عاطفية وجدانية ترسمت سبيلها إلى الذات الإنسانية، وصوغ الأفكار والمعاني بلغة عُرفت بانسيابيتها ووضوح مقاصدها وبيان بلاغاتها ويسر تلقيها مع الحفاظ على جزالة لغتها وفخامة إيقاعاتها وفرادة أفكارها وجدَّتها.. هذا الموت كان قاسياً علينا وهو يقطف الشاعر الكبير سعيد عقل.
ويشير محمد إلى أن ما يحسب لسعيد عقل أنه كان قريباً من نبض الشارع العربي منذ حركاته التحررية ضد الاستعمار وحتى نيل البلدان العربية استقلالها.. سعيد عقل تغنى بمآثر لبنان والشعوب العربية وشد من أزر الثوار.. تناول في قصائده الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، التي كانت ولما تزل تعصف بشعوب وطننا العربي.
سعيد عقل ظهر في النصف الأول من القرن العشرين الذي عُد عصرا عباسيا جديدا ظهرت فيه الحركات الشعرية التجديدية كحركة قصيدة الشعر الحر الذي توّج بريادة السياب والملائكة والبياتي والتنافس المحموم بين هذه المدارس الأدبية بهذة الوجودات الإبداعية.. كان سعيد عقل بصمة متميزة على الخريطة الشعرية والثقافية في لبنان والوطن العربي، كان صوت الشام وهو يحمل فخامة العمود الشعري، كان محدثاً ومجدداً في أفق الشعرية العربية، فلم يأخذ من الإرث الشعري العربي سوى لبوس القصيدة (في البحور والقوافي).. إذ عمل على خلخلة النسق الشعري على المستوى المعرفي والآيديولوجي والثقافي ومغادرة قصائد الطلل والتشبيب والمديح والرثاء والأنساب.. فكانت قصيدته تركيبية تحمل أغلب الأغراض بلغة اتصالية توآصر بين القديم والمعاصر، تنضوي على عوالم وجدانية وشعورية تصل القريب بالبعيد. أفكار وثقافات ولحمة إنسانية كانت السمة الغالبة على شعرية سعيد عقل.. فـ»سلام على إبداعك سعيد عقل قامة شعرية عملاقة يتغنى بها كل جيل».
ناديا الياس، محمد عبدالرحيم وصفاء دياب
القدس العربي