الثقافة كسلوك حضاري هي شرط إنساني لا محيد عنه، فالإنسان، فردا أو جماعة، لا يحيا بدون تلك الممارسات والأفعال التي بوساطتها يعبر عن طريقة تفكيره وإنتاجه وإبداعه وتواصله داخل حيز إنساني ومكاني معين، حيز اجتماعي تحكمه أعراف وقوانين وعقلية منتجة، وذلك ما يدفعنا في الأخير للحكم على ثقافة المجتمع سلبا أو إيجابا، هل هي ثقافة إنتاج أم استهلاك، أم هما معا؟
ثم ما الدوافع التي جعلت ثقافتنا العربية تغرق اليوم في استهلاكية سلبية نتلمسها، خاصة في ما يتعلق بماديات الحياة وكمالياتها أكثر مما هو معرفي؟
بدا لي نوع من المفارقة وأنا أقف على هذا الجناس الطريف بين مفردتي «الذهنية» و»الدهنية»، فكلتاهما تنزع نحو الإنتاجية والاستهلاكية معا، مع فارق بسيط، فالذهنية تستهدف العقل منه وإليه، أما الدهنية فتستهدف البطن ورفاهية العيش، ما نسجله هنا هو ذلك الاختلال على مستوى التوازن بينهما، خاصة في مجتمعنا العربي الذي أصبح سوقا عالمية استفحل فيها الطلب أكثر من العرض، بحكم تداعيات السياقات السياسية والاقتصادية في منطقتنا، وأيضا بفعل إكراهات العولمة الشاملة التي أجهز فيها القوي على الضعيف.
أمام هذه المعضلة لابد من التذكير بأن الثقافة في بعدها الرمزي تعبر عن نمط التفكير الجمعي أكثر منه فرديا، وعن الوعي بالمحيط وكيفية التفاعل معه، حيث الإنسان ينتج ما يسم هويته وانتماءه، والحالة هذه، نجد ثقافتنا لا زالت ترزح في كثير من رموزها وعناصرها تحت طائلة الشفاهية بحكم شعبويتها المثقلة بالتهميش والإقصاء، رغم المحاولات لتدوينها وتأهيلها رسميا، مما يعرضها شيئا فشيئا للنسيان أمام المد الثقافي الأجنبي عوض تفاعلها معه لإنعاشها وتطويرها، وبالتالي خلق منافسة ندية تكسر القاعدة المعروفة حسب الطرح الخلدوني القائل، بتطبع المغلوب بثقافة الغالب.
إن ما نلمسه للأسف هو انحسار رمزية هويتنا إزاء انبهارنا بتفوق ثقافة الآخر، بل بات تمثلنا حول ثقافتنا أكثر خجلا، إما بسبب قدامتها وعدم تماشيها مع روح العصر الجامحة، خاصة مع الاحتكاك التواصلي عبر الوسائط الحديثة وما تعرضه من أطياف ثقافية راقية أو مثيرة، ذلك هو الباعث الحقيقي الذي حولنا فجأة إلى مستقبلين سلبيين ومستهلكين من الدرجة الأولى لكل العناصر الأجنبية، رمزية أو مادية، بدل العودة إلى رموز ثقافتنا الموروثة أو الجارية لاستلهامها واستثمارها بالتجديد والتطوير، ثم إعادة إنتاجها بروح معاصرة، ولنا من الأمثلة الشيء الكثير على مستوى الأدب والفكر والفن والعادات والطقوس واللباس والطعام والأدوات.
صحيح أن هناك محاولات جادة في تأهيل مثل هذه الرموز، بيد أننا نلاحظ الأجيال الجديدة تنزع نحو الاستهلاك الأجنبي الخاص، بما هو متعلق بوسائل الرفاهية والغذاء وكماليات الحياة ورغدها في بعدها المادي أكثر منه روحيا ومعرفيا، فارتياد مطاعم الماكدونالدز والبيتزا ومتاجر المشتريات الفاخرة من لباس وأدوات ذكية… يعرف تصاعدا خطيرا على حساب الاهتمام بخصوصياتنا ومقوماتنا التراثية، أدبا وفكرا وفنا وعادات ووسائل عيش، بل قلما نجد شباب اليوم يرتادون المكتبات ويعشقون القراءة، فهل يمكن الحديث عن مجتمع المعرفة في ظل هذا الهوس بثقافة الاستهلاك الدهني لا الذهني؟
إننا نعيش غربة مكانية وزمانية، طوباوية لا نحس معها بموطئ أقدامنا على أرض لها جذورها الممتدة منذ زمن قديم، ونحلم فقط أن نسير إلى الأمام بسرعتين، من دون وعي جدلي وتفاعلي مع الأنساق المشكلة لهويتنا، فغدونا كائنات استهلاكية بامتياز، نتلقف كل ثقافة مسلعة ومعلبة ظانين أن ذلك هو مظهر من مظاهر التحضر والتمدن، وقد نصب الإعلام نفسه هنا بكل ثقل للترويج لثقافة الاستهلاك، حيث تتربى الأجيال اليوم على هذا النوع من التلقي، في غياب متعمد لتمرير المعرفة الذهنية والتشجيع على إنتاجها، فنجد أن معظم ما يعرضه هذا الإعلام يهدف إلى تسليع ذائقة المجتمع العربي وشد اهتمامه لسلوك تسويقي خطير، وتلك هي الوظيفة الأثيرة التي صنعتها الدول الاقتصادية الكبرى في مستعمراتها السابقة، مما عمق الهوة الفاصلة بين شعوب الجنوب إزاء شعوب الشمال، وانعدمت ثقافة الحوار والتفاعل، لتحل محلها ثقافة التسويق والاستهلاك، بسبب احتكار الدول الكبرى لوسائل الإنتاج ماديا ومعنويا.
وأمام افتقارنا للقدرة على تحقيق منافسة ثقافية واقتصادية حقيقية لجأنا إلى الارتكان في زاوية سفلية سحيقة كرستها فجوة حضارية يصعب ردمها، ولم يبق لنا سوى شرق جريح لا يقوى على النهوض من جديد بسبب القلاقل التافهة التي يعيشها، شرق فقد الثقة في قدراته الروحية وتنكر لقيمه الموؤودة، التي قد يحتاجها الغرب نفسه لخلق توازن فعال بين مادية الغرب وروحانية الشرق، حتى تستقيم مسيرة البشرية باتجاه مجتمع إنساني أفضل.
*كاتب مغربي
سعيد السوقايلي*