منذ استغاث محمود درويش بالنّقاد الموسميين وباعة الاكفان المتجولين «انقذونا من هذا الحب القاسي» حتى دفاعه الجمالي عن تغييب السياسي المباشر في القصيدة لصالح الانساني عقود عاشتها الثقافة العربية بلا بوصلات، واوشك فيها القاسم المشترك سواء تعلّق بالهوية او الهاجس الابداعي على التلاشي، وذلك لاسباب ليست أدبية او ثقافية خالصة بقدر ما هي سياسية واجتماعية بنيوية ذات صلة بتشكّل الدولة المراوحة بين القبيلة والكيان الطارىء المفروز من حقبة استعمارية نسجت مستعمراتها على غرارها، فالملكي منها افرز نموذجا ملكيا هو على الأغلب انجلوساكسوني والجمهوري افرز نموذجا جمهوريا وهو على الأغلب فرانكفوني، والسرعة التي اندلع فيها المكبوت الطائفي في العالم العربي لمجرد حراك افتضح هشاشة الدول كان الدليل بل البرهان الميداني على حالة التيه وانعدام الوزن التي عاشها العرب دون ان ينجزوا استقلالا جديا، ولكي لا نستطرد باتجاه هذا الجذر الانثروبولوجي لظواهر تعالج الان بمقتربات التوصيف والاجترار نعود إلى استغاثة محمود بالنقد الذي تحوّل إلى ببغاء تردد الصدى، اضافة إلى ممارسة نوع من التطهُّر او الكاتارسيس ازاء قضية كان عاطلا عن دوره التاريخي فيها رغم اختصارها وتقطيرها لكثافة الهوية والتاريخ وما تم استقطاعه من جغرافيا مقدّسة .
يقول محمود ان من اطلق عليه وعلى زملائه من شعراء فلسطين في المناطق المحتلة عام 1948 اسم شعراء المقاومة هو الشهيد غسان كنفاني وقد فوجئوا بهذا المصطلح، لأنهم كانوا يمارسون حياتهم ويكتبون ويحلمون دون ان يعلموا بأنهم شعراء مقاومة، وهو ما يذكّرنا بما قاله روب غرييه عن وصف الرواية التي كان يكتبها هو وبعض ابناء جيله بأنها الرواية المضادة او المعادل الأدبي للفلسفة الظاهراتية، يقول غرييه ان روايتي كما اكتبها ولا شيء آخر !
ويتساءل محمود أما من دليل آخر على المقاومة سوى القول سجّل انا عربي او سأقاوم وأقاوم ؟
ذلك السؤال الذي طرحه درويش اثناء توقيع كتابه « كزهر اللوز او أبعد «فيرام الله، يعلن طلاقا بائنا بين منهجين في التفكير، احدهما يتحدد بالألفاظ والتصريح والآخر يتجلى في الايحاء والتلميح، وهذا هو الفارق الحاسم بين الشعر ونقيضه، فتطور الشاعر رؤى وأدوات اعاده إلى القوس المحذوف من دائرة الابداع وهو ما تحدث عنه اليوت بالحاح عن المعادل الموضوعي للعاطفة من خلال قراءته لمسرحية هاملت، فالحزين ليس من يقول انا حزين وكذلك العاشق والمقاوم، لأن الايحاء بهذه الانفعالات هو قماشة الشعر وشرطه، ولعلّ درويش أدرك في مرحلة النضج ما سمعته من أدونيس ذات يوم حين قال بأنه يخشى على الشاعر من أن يأخذه جمهوره بعيدا عن ذاته، بحيث يصبح صدى وليس صوتا، وبالفعل ادرك محمود هذا الخطر الشعري، لكنه وجد نفسه مضطرا للدفاع عن نصوص محررة من الجغرافيا لكنها مأهولة بالتاريخ، فالمقاومة أوسع من فوهة بندقية لأنها تشمل الحياة كلّها، والمقاوم انسان لا يرمي الحياة وراءه كي يتفرغ للدفاع عن حقه في الموت، انها دفاع عن الحق في الحياة وعن الغد وليس فقط عن البارحة .
سؤال محمود يفتح ملفا مهجورا حول اطنان من الورق التي صدرت تحت عنوان الشعر بدءا من الجزائر في حرب استقلالها حتى فلسطين ولبنان والعراق في حروب استقلالها بعد ان صدرت الطبعة المنقّحة من استعمار ما بعد الحداثة .
* * *
لم يعش محمود درويش ما كان يحتاج اليه من الأعوام في ذروة سني النّضج كي يخرج من نطاق الدفاع عن حقه في ان يكتب ما يريد وليس ما يراد منه كتابته، وتلك بحد ذاتها تضاعف الأسى على رحيله المباغت .
وبعد رحيله لبّى النقد الموسمي الاستغاثة لكن ليس على طريقة وامعتصماه، إذ سرعان ما تحالف بعض النّقاد مع الدّود لامتصاص نخاع الجسد ودم القصيدة، ولأن الرجل شأن كل الموتى اصبح عاجزا عن الدفاع عن نفسه فقد اوكل المهمة لنصوصه وليس كما يقال لأصدقاء حوّلوا الصداقة إلى مهنة، ونصوص درويش ليست ابقارا مقدّسة، او مناطق محظور الاقتراب منها او مسّها، وكم كان يشعر بالأسى لأن معظم ما كُتب عنه حيّا كان يتغذّى من نصوصه ويقترض منها بدلا من ان يعطيها، لكن لم يحدث من قبل ان كان الموت بالنسبة لشاعر بمثابة اطلاق اليد المغلولة لتثأر من جسد عاطل عن الحياة، لكن غياب المناقبية والفروسية وكل مشتقات هذا المعجم المنقرض في ثقافة داجنة يتيح للأعمى ان يزعم بأنه زرقاء اليمامة والمُقعَد بأنه العدّاء الذي يركب الريح .
* * *
ان مثال محمود درويش بل امثولته من خلال ثنائية الاقبال المُفرط والإدبار الأكثر افراطا يفتضح ما آلت اليه ثقافة توقفت عند طور العذراء، وعند سجال عقيم ايهما اسبق بيضة التاريخ ام دجاجته ؟ انها ثقافة المفاضلة بين الأسد الميت والفأر الحي، لصالح الفأر بالطبع، وحين تصبح ثقافة ما منزوعة البعد الرواقي، وملحقة باسطبلات الاعلام والسّلطة فإن كل شيء يصبح مباحا ومُتاحا، اما البقية سواء كانت من العمر او الرحيق فهي في حياة من رحلوا وليس في اعمار امعاء تسعى كالثعابين ! وتقتاد اصحابها من لعابهم إلى وليمة حتى لو كانت جيفة !
* كاتب أردني
خيري منصور*