مع انهيار السلطنة العثمانية وإلغاء الخلافة الاسلامية من قبل السلطة التركية الجديدة بقيادة اتاتورك انطلق نقاش في الاوساط الثقافية والسياسية الاسلامية حولها، وقد تبنت شخصيات فكرية ودينية وحزبية استعادتها باعتبارها قصبة خلاص.
فهل مازالت صالحة لعصرنا ولهذا الدور المناط بها؟.
طرحت صيغ عديدة لتحديد ماهية الاسلام كمدخل لتحديد الموقف من الدولة مثل «الاسلام دين ودولة» التي طرحها الاستاذ حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المسلمين، ما يجعلها فرضا دينيا، و»دين وأمة» التي طرحها الاستاذ جمال البنا، شقيق البنا الأصغر، مؤسس دعوة الاحياء الاسلامي، مستبعدا بذلك ربط الدولة بالدين، و»دين للدنيا» التي طرحها الدكتور عصمت سيف الدولة واعتباره الدولة ضرورة استدعتها الحياة الاجتماعية لخدمة الانسان ما يربط طبيعتها بتغيرات المجتمع. وجرى نقاش حول طبيعة هذه الدولة وشكلها وأسس تكوينها، وتباينت المواقف بين من اعتبر الخلافة التي قامت في صدر الاسلام شكل الدولة الاسلامية، ومن تبنى صيغة الدولة الوطنية لكن بحمولة اسلامية، ومن دعا الى فكرة وسط: كمنولوث اسلامي(مالك بن نبي). وتحول كتاب الشيخ محمد رشيد رضا «الامامة العظمى»، الذي ينطلق من اعتبار الدولة فرضا اسلاميا والخلافة شكلها السياسي، الى انجيل لدعاة الخلافة في حين تحول كتاب الشيخ علي عبدالرازق «الاسلام وأصول الحكم»، الذي ينطلق من اعتبار الاسلام دينا روحيا محضا، الى انجيل مضاد يتبناه الرافضون لفكرة دولة اسلامية، وغدت اقامة الخلافة اولوية مطلقة لحزب التحرير الاسلامي والجماعات السلفية التي نشأت بعده بعقود، في حين اعتبر الدكتور طه حسين دولة الخلافة نمط الحكم العربي في ضوء الطبيعة القبلية للحياة الاجتماعية العربية آنذاك، ما يجعلها غير صالحة لمجتمعات غير قبلية، ورأى فيها الاستاذ هادي العلوي تكريسا لتقاليد قبلية قديمة تقضي باختيار شيخ القبيلة الذي يبقى شيخا مدى الحياة دون ان يقيله احد او يتحدى قيادته احد.
واقع الحال أن اعتبار إقامة دولة فرضاً إسلامياً، والخلافة نظامها السياسي، ليس له سند صلب وواضح من النص الديني (القرآن الكريم) حيث لم ترد في النص لا صراحة ولا مداورة، ناهيك عن أن اعتبارها فرضاً إسلامياً يجعلها أصلاً من أصول الدين وهو مخالف لما تواضع عليه المسلمون من أصول وهي: الألوهية، الرسالة، الميعاد، لم تشذ عن هذا الموقف إلا الشيعة الإمامية التي اعتبرت الإمامة أمراً إلهياً. كما أن وقائع التاريخ في العهدين النبوي والراشدي تشير إلى الضد من ذلك حيث توفي الرسول (عليه الصلاة والسلام) من دون أن يحدد طريقة للحكم أو يسمي إماماً بعده، إذ لو كانت أصلاً من أصول الدين لانفده قبل رحيله، وهذا ما أكده المسلمون وجسدوه في خلافهم في سقيفة بني ساعدة، فقد تناقشوا وتفاضلوا قبل أن يتفقوا على اختيار شخص من أوائل المؤمنين: أبو بكر الصديق، وينصبوه إماماً. كما تباينت طرق اختيار الخلفاء الراشدين بين تسمية الخليفة لخلفه (ابو بكر لعمر) وترك الامور لأهل الحل والعقد بعد تسميتهم (عمر بن الخطاب)، وأن وقائع ما اعتبر العصر الراشدي تشير إلى تباين منهاج الخلافة أيام عثمان، وعلي الى حد ما، عنه أيام أبي بكر وعمر تبايناً شديدا، وهذا يضع علامة استفهام كبيرة على صحة اعتبارها مرحلة واحدة ووصفها كلها بخلافة راشدة، ناهيك عن أن تسمية «الخلافة» وُلدت من واقع ما حصل: خلف الرسول في موقعه في قيادة المسلمين فهو خليفة، اشتق منه وصف النظام السياسي: الخلافة، وقد تخلى عنه عمر بن الخطاب إلى أمير المؤمنين، لأنه اعتبر نفسه خليفة أبي بكر وليس خليفة الرسول، ورأى أن وصفه سيكون خليفةَ خليفةِ رسول الله وأن في ذلك ركاكة وتكلفاً.
لقد استندت فكرة الدولة/الخلافة الى ما عرف في الفقه الاسلامي بـ»السياسة الشرعية» وما حددته من اسس وآليات لإقامة الدولة والنظام والسلطات المتفرعة عنه. فوفق فقهاء السياسة الشرعية تنصيب امام واجب، وشروط الإمامة: الاسلام والصحة البدنية والعقلية والقرشية، أما التنصيب فاستقر على آلية من مرحلتين: اختيار اهل الحل والعقد للشخص، ومبايعة المسلمين في المدينة المنورة ثم البقية له، ووظيفة الامام رعاية شؤون المسلمين الدينية والدنيوية عبر تعيين الولاة والقضاة والجباة وقادة الجيوش وأصحاب بيوت المال ومحاسبتهم وعزلهم. يتم ذلك في ظل أسس: وجود نص حاكم للجميع: القرآن الكريم، ودور الامة في اختيار الامام وعزله، والشورى.
غير ان التاريخ الاسلامي يخبرنا بان هذه القواعد لم تحترم إلا لبعض الوقت، وان خرقها بدأ مبكرا ففي مشاورات اهل الحل والعقد لاختيار خليفة لعمر بن الخطاب اطلق عبدالرحمن بن عوف مقولته الشهيرة: «ان تختاروا حجرا خير من ان تختاروا رجلا مثل عمر»، وتم استبعاد علي واختيار عثمان بن عفان الذي تقدم خطوة أخرى في اسقاط القواعد الناظمة للحكم فعندما حاصره الثوار ومشى الوسطاء بين الطرفين ونقلوا طلب الثوار اليه بالتنحي اجابهم قائلا: «لن اخلع ثوبا سربلنيه الله» منهيا حق الامة في اختيار الامام ومحاسبته. ثم جاء معاوية وحوّل «الامامة» الى وراثة، وغدا الامام طليق اليد يتصرف وفق رأيه ومصالحه، وقد زاد فقهاء السلطان الامر سوءا بتحريم الخروج عليه إلا في حالة الكفر الصريح، وهذا انهى دور الأمة وأهل الحل والعقد معا، والتفوا على مسألة الشورى بتخريجة الشورى المعلمة والشورى الملزمة ضاربين السمة الابرز في نظام الحكم الاسلامي في ذلك العصر.
تشكلت دولة المدينة تاريخياً في سياق الاستجابة للضرورة الاجتماعية التي يستدعيها النص الديني عبر تحديده لواجبات وحقوق وعلاقات مُلزِمة بين المسلمين الأفراد بعضهم ببعض وعلاقتهم بأولي الأمر/الحكام، وبغير المسلمين، كي تقوم السلطة بحفظ هذه الحقوق والواجبات وترعى العلاقات بإلزام الأفراد بها، وما يقتضيه ذلك من تشريع وإدارة وقضاء وتنفيذ وردع…إلخ.
غير ان دعاة إقامة دولة «الخلافة» الآن أخطؤوا عندما لم يميزوا بين ضرورة الإمامة/السلطة، المرتبطة بالاستجابة للضرورة الاجتماعية، التي نادت بها كل المذاهب الإسلامية (السنة، الشيعة، المعتزلة، المرجئة، الخوارج.. إلخ) عبر النص على وجوب تنصيب «إمام»، وطبيعة الدولة وارتباطها بشروط وسمات العصر الذي تقوم فيه، حيث لا يمكن فصل الدولة عن العصر الذي تنشأ فيه، وقد ذكرت كتب التاريخ أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حاول وقف الفتوحات عند حدود معينة (العراق)، لكنه لم يستطع لأن نمط الدولة السائد آنذاك لا يسمح بذلك، فطبيعة الدولة الإمبراطورية (حدود الدولة وشعبها تحدده القدرة على الغزو وفق حق الفتح الذي كان سائدا آنذاك) تستدعي الحرب والاستعداد للحرب للمحافظة على الذات والأرض، فلو بقي المسلمون في حدود دولة المدينة لما تركهم سكان الجزيرة العربية من غير المسلمين يعيشون بسلام، ولو بقوا في حدود جزيرة العرب لما وفرتهم الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية.
العالم تغير من أيام النبوة إلى الآن، كان عدد المسلمين بضعة آلاف أصبحوا الآن ملياراً وبضع مليار، وشهد تحولات كبيرة وعظيمة في بنية المجتمعات وفي الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة والأساليب الاقتصادية المعتمدة في ادارة الثروة، ترتب عليها تغير عميق في أسس ومعايير تشكيل الدول وأساليب إدارة السلطات، فقد غدت الأمة، بالمعنى الاجتماعي، أساس الدولة الحديثة، وأصبحت الدولة دولة وطنية، أو دولة/ أمة. وهذا يختلف بشكل جذري عن تكوين الدولة الإمبراطورية، لا يغير في هذا المعطى أساس الامبراطورية إن كان عقائدياً (دولة الخلافة، الاتحاد السوفياتي) أو حربياً (الإمبراطورية الرومانية أو الفارسية قديما والأمريكية في عصرنا).
لم تعد الدولة تعني، كما كانت قبل قرون، دولة المَلك أو الإمبراطور أو الخليفة، بل تطورت وأخذت معناها الحديث: مؤسسة تضم كل الأفراد في المجتمع، ولكنها تبقى مستقلة عن أي فرد أو مجموعة (شخص اعتباري)، والسيادة فيها لمجموع الشعب، وتتولى السلطةَ الفعلية (الممارسة) حكومةٌ ملتزمةٌ بحدود ترسمها قواعد عامة ومجردة (الدستور)، مع التمييز بين السيادة والسلطة، فالسيادة أشمل من السلطة، إذ السلطة هي ممارسة السيادة، وهذا استدعى التمييز بين الدولة والسلطات المتفرعة عنها (الرئيس، الحكومة، البرلمان، القضاء… إلخ)، والسيادة في الدولة الحديثة لا تُسند إلى شخص طبيعي بل إلى شخوص معنوية مجردة: الأمة، الشعب، الدولة، المؤسسات، وتُسند السلطة إلى شخوص طبيعيين لممارستها نيابة عن الدولة مع تقييدها بالدستور والقوانين، فالحكومة تمارس السلطة نيابة عن الدولة، والسلطة التنفيذية تنفذ التشريعات والقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية (البرلمان)، والسلطة التشريعية تكلف السلطة التنفيذية وتحاسبها، والسلطة القضائية تراقب دستورية القوانين وتقوّم الممارسة في السلطتين التنفيذية والتشريعية. فالدولة، ذلك الشخص الاعتباري الذي يتجسد بالدستور والسلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، توكِل سلطتَها إلى من ينوب عنها في ممارستها، فالرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء ليسوا أصحاب سيادة أصلاء بل وكلاء الدولة في ممارسة السيادة، إنهم مفوَّضون من الدولة وليسوا أصحاب سيادة ذاتية، لقد مُنحوا حق إصدار القوانين، واحتكار حيازة وسائل الإكراه، وحق استخدامها في سبيل تطبيق القوانين بهدف تأمين السلم والنظام، وتمكين التقدم في الداخل والأمن من العدوان الخارجي. وهذا يجعل من دولة الخلافة، كما عرفها التاريخ الاسلامي، خارج العصر ومتعارضة مع روحه ولا تناسب ادارة المجتمعات الحديثة.
*كاتب سوري
علي العبدالله
القدس