في عنوانٍ مُخاتل أقربُ إلى العناوين المجازية التي لا تنضوي على حقيقة النّص بقدر ما تَعكسُ تيمة معينة أو تُمسك خيطًا دقيقًا من عناصرِ النَّصِّ، تأتي رواية الدكتور سيد البحراوي «ليل مدريد» الصادرة حديثًا عن دار تجليات بالقاهرة 2014، لتقدِّم لنا عبر الرَّاوي الـ «أنا» شخصية بطلة الرواية «هناء» وما عاشته من أزمات انتهت بها إلى عيادة الطبيب النَّفسي.
فيتخذُ من هناء المشتتة والمتناقضة والتي تعيشُ أزمة يعودُ سببها إلى واقعها المحيط حيث أسرة مفكّكة؛ أب غائب فعليّ هَرَبَ إلى السُّعودية بسبب الملاحقات الأمنيّة ولم يعد إلا وهي في الجامعة، وأمّ مفرطة في الأنانية لا تُفكِّر إلا في ذاتها، حتى أنها أبعدت نفسها تمامًا عن مشاكل أفراد الأسرة، فصارت في حكم الغائبة، وقد تأكّد غيابها عند مرض ابنتها هناء بعد الزواج لم يكن لها وجود، وهو ما تكرَّر بعدما ولدت طفلها وعندما عادت بعد خلافها مع الدكتور هاني وارتمت في حضن الأب اكتفت بجلوسها «في غرفتها كشبح يشاهد التلفاز» (ص، 69)، وأخت (صفاء) لاهية لا مبالية لحد التفريط في جسدها، وأخ (رضا) عابث لا يُمَارِسُ رجولته إلا على أختيه، وظروف سياسية عاشتها أظهرت الانقسام والتشرذُّم سواء على مستوى العالم العربي حيث غزو العراق للكويت وما أعقبه من احتلال الأمريكان للعراق، وداخليًا حيث سيطرة الإرهاب وقيام الجماعات الإسلامية المتطرفة بعمليات إرهابية وإجرامية، وهو ما جعل يد الأمن تبطش بالجميع، في ظل هذه الأجواء والمناخات عاشت البطلة، وَمِن ثمَّ ما طرأ عليها أو حتّى على جيلها هو أزمة عامة وليست شخصية، وكأنَّ المؤلف يريد أن يدين هذا الواقع الذي أفرز هذه الشخصيات المشوَّهة نفسيًا، والمنهزمة داخليًا، في صورة هذه الشخصية التي هي من إفرازاته. يغلبُ على السَّرد الطابع السِّيري، فتسيطرُ على النَّص الاعترافات، التي تأتي من قبل السَّاردة التي تعود إلى الشخصية المحورية هناء «أكتب لنفسي فقط، فربما استطعت أن أفهم ما أنا فيه بعد ذلك الوصف الفظيع الذي قدّمه الطبيب النّفسي لحالتي. ليس مهمًا اسم المرض الذي ألصقه بي، أريد أن أقول له إنه لا يفهم شيئاً».(ص، 8)، فتقدِّم لنا في هذه الاعترفات ملامح للحياة التي عاشتها في بيت أسرتها التي شهدت صراعات كثيرة بين الأبوين، ثم غياب الأب لأسباب أمنية في السعودية، وأثر هذا الغياب على الأسرة وعندما عاد كان كل شيء إلى زوال، فهناء هي نموذج باذخ لحالات مشابهة لمظاهر التفسُّخ والانهيار للعائلة المصرية، بسبب الهجرة إلى بلاد البترودولار، وما سببه من انشراخ في ذوات الأبناء بسبب الغياب، وغياب الرابط اللهم إلا الرابط المادي الذي زاد من الهوة وحالة الاغتراب الداخلي. تبدو الرِّوايةُ في بنائها رواية شخصية، حيث شخصية هناء هي المسيطرة على الحدث بأزماتها التي مُنيت بها لدرجة أنها كما تقول «اكتشفتُ أنّني مُمزقة داخل نفسي وفي علاقاتي مع الآخرين وان الآخرين كذلك ضائعون حتى من الأجيال الأكبر» (ص، 85) وبتناقضاتها التي جعلتها تدخلُ في عنادٍ وحربٍ مع أمها عند ارتدائها الحجاب، ثم تجربتها مع صديقتيها المغربيتيْن مليكة وفاطمة في أسبانيا. لكن العجيب أن أزمة الشخصية التي تكشفُ عبر تعدد علاقاتها مع شرائح مُختلِفة من الطبقات الاجتماعيّة عن أزمات جميع الشخصيات هي نتاجٌ لواقع انتهى بموت شاعرين كبيرين هما مجدي الجابري، وأسامة الدناصوري (فيما بعد) الذي يستشهد الكاتب بأشعارهما، ومن ثم فأزمة البطلة تحيل إلى أزمة جيل والتي عبَّر عنها حمدي في رسالته لهناء في مدريد بقوله «جيلنا كله في طريقه للموت». ويبدو أن الاستسلام للموت الذي تردّد بموت الشاعر، ثم بموت الأم، كان تمهيدًا لما كانت عليه الشخصيات من سلبية أو نماذج ضدّ، لم تسعَ إلى التغيير والخروج من شرنقة واقعها، أو حتّى بمجرد التفكير، حيث فكرة الخلاص غير واردة بما في ذلك النهاية المفتوحة التي أحالت إلى طريق سوف تصل إليه هناء، نهايته معروفة من المقدمات والنظريات التي تؤمن بها، فمع كل ما فعلته واقترفته من علاقات شائنة سواء بعلاقات غير كاملة مع خالها أو مع بيتر عبد الله، أو ما كان يحدث مع الدكتور هاني في القاهرة لم تشعرْ بوخزة الضمير والذنب إلا عندما ولجها من الخلف، وبدأت تتخبط، لأن في أفعالها السابقة كانت تجد المبررات بأنها لم تقع في الخطيئة بعد. أزمة البطلة الحقيقية تكمن في تناقضها، فهي تقول عن نفسها أنها «متدينة وبينها وبين الله علاقة لا أحد يعرفها وفي ذات الوقت هي تحب جسدها، كنت ـ والحمد لله متدينة ـ وأجتهد في معرفة ديني وبيني وبين ربي علاقة خاصّة لا أظن أنه أو أحد من أهلي أو زملائي يعيش مثلها في لحظات الصفاء، ولكن في نفس الوقت جميلة وأحبُّ جسمي، وخاصّة وجهي وشعري، هذا الذي قرّرتُ أن أحرم منه أمي فكنتُ ألبس الحجاب حتى في البيت، ولم أكن أرى السفور ضد الدين ومع ذلك لبست الحجاب» (ص 17). وهي ما تتطوّر إلى حالة من الافتقاد للحب والحنان بحثت عنه في غيبة أبيها، فوجدته في خالها لكنه تحوّل مع مضي الوقت إلى علاقة جنسية غير مكتملة، ثم ما أن تزوجت زادت أزمتها بعد خيبتها في زوجها الذي أجبرها عليه الأب،بسبب قسوته أولاً التي لم تفارقها منذ أول ليلة، وثانيًا بشذوذه، فهربت منه إلى الدكتور هاني مشرفها، لكن هو الآخر كان لعوبًا فسرعان ما انصرف عنها إلى أخرى، وهو ما عمّق من أزمتها، فبحثت عن صديقها القديم حمدي عبد الرحمن كنوعٍ مِن الانتقام. وفكرة الانتقام التي استحضرتها تستدعي في الذاكرة ميراثًا حافلاً ملئ بفخاح النساء ومؤامراتهن ضد الذكورة، وبهذا تؤكِّد طبيعة المرأة الشريرة التي وردت في كتب التراث أو حتى الأمثولة التي ربطت بينها وبين الحيّة. ثمّة أحداث مرّت بها كانتْ تقودها إلى التغيير، قد أعقبت الولادة وظهور ابنها علاء فاتصلت بالعالم الذي كانت منفصلة عنه عبر وسيط هو الراديو الذي كان ينقل لها أخبار ما يحدث في العالم الخارجي، لكن لم يحدثْ وهو ما يؤكِّد أنها شخصيَّة ضدّ. وقد شملت التغيّرات أيضًا نظرتها للدكتور هاني والتي أحال تعلُّقها به إلى التعويض أو إلى عقدة أوديب أو حتى إليكترا، ومع هذا فتصر على أنها تبحث عن «الحب والحنان الحقيقي»، فكان الخلاص في البعثة، وهناك تورطت بعلاقتيْن الأولى مع الدكتور سامي العزبي المستشار الثقافي في المعهد العربي، إلا أنها استطاعت في اللحظة المناسبة أن تهرب، وإن كانت أكملتها مع عبد الله بيتر الذي تعرفت عليه عند الجماعة، وإن كانت تمسكت بحزام العفة التي تصر عليه حتى لا تغضب ربها، وهو ما سقط منها مع الدكتور هاني عندما زار مدريد والتقاها هناك. يطرح النص في أحد جوانبه المهمّة بعض القضايا التي تتصلُ بواقعنا الراهن والتي تكشفُ عن خيباتنا فليس صدفة أن تكون البطلة المأزومة دارسة للتراث الأندلسي وهو ما عمّق من محنتها عندما تقع في مقارنة بين واقعنا الماثل لديهم وقد تم طمس هويته الإسلامية، وصبغه بالصبغة المسيحية، ومدى إعجابها وانبهارها في ذات الوقت من محافظتهم على هذا التراث الذي لو ظل معنا، نفس الحال تعرضها لواقع المثقف المزرى الذي افتقد التأثير وإن كان عبَّر عنه بنموذج سلبي هو الدكتور هاني، وآخر عديم الحيلة يعيش على الشعارات التي جعلته يرفض دعوتها في أن يسافر معها إلى أسبانيا واكتفى بقوله «أنا لا أصلح إلا للحياة هنا بكل قسوتها ومرارتها لن أستطيع أن أكتب حرفًا إذا خرجت من هذا المأزق» (ص، 103) في إشارة ذات مغزى لبراءة الحلم وسط عفونة الواقع، وإن كان انتهى بموت صديقه الشاعر. كما تكشف الرواية في بعض تفاصيلها خاصة العلاقة المتوترة بين الدكتور هاني وهناء عن حالة مزريه من الفساد وصلت إليه جامعاتنا عبر ممارسة الابتزاز التي يمارسها المشرفون على الطالبات حتى ولو كانت هناء هي التي أغرته، إلا أن الأستاذ استجاب لها، وهو ما يكشف عن خلل في القيم، مقارنة بما تعرض له الدكتور نصر حامد أبو زيد، ووقوف الجامعة سلبًا في القضية. التحدي الأكبر الذي كان أمام السَّارد ليس في استخدام الضمير الأنا، وإنما في تقمُّص شخصية المرأة والتعبير عن مشاعرها الداخليّة واحتياجاتها النفسيّة والبيولوجيّة بهذه القدرة التي تحيل ذات الساردة إلى أنثى وليس لرجل، وهو ما أعطى إمكانيات جديدة للضمير الأنا تتجاوز تعبيره عن ذاته، إلى استخدمه كضمير غيري، على نحو ما جاء في رصده لحالة الدكتورة هناء، وما عانته، والتغيرات التي طرأت في حياتها. في بعض الأحيان يفصل بين ذاتها المسرودة بالأنا حيث تستخدم الضمير الأنت في إشارة بالغة إلى إحداث مسافة سردية وهي تأتي عند التفكير بصوت عالي أو إزجاء النصائح على نحو ما كانت تُحدِّث نفسها، وأن تجعل من ذاتها راوية ومرويا عنها وكذلك مخاطبة «حمدي يستحق أن يكون صديقًا بغض النظر عن هاني، حاولي أن تنسيه، اتصلي بحمدي وعودي للاهتمام بعلاء الذي بدأ التوتر والقلق يسيطران عليه بسبب إهمالك له…….. آه أيتها المجنونة كيف جرؤت على إهماله لهذا الحدّ» (ص 74)، كما يكشف الحوار الذي دار بين هناء وحمدي عن الثقافة السريعة واللاهثة التي سيطرت على الشباب، وكذلك يتطرق لأثر الفكر الوهابي الذي حمله الأب بعد عودته ورفضه لعادات الخمسان والأربعين بعد وفاة الزوجة. قد يظهر صوت المؤلف الضمني الذي يعود على المؤلف الحقيقي في نوع من السخرية من الأوضاع في صيغة تعليق عن تأخّر الندوة بقوله «كالعادة»، وهو ما يعكس حضور المؤلف بصفته الناقدة والناقمة على الأوضاع، وأيضًا في حديثه عن حرب الخليج، أو عبر حالة التحسر على مآل التراث العربي في الأندلس، والتي تتطابق مع رؤية المؤلف الحقيقي. كشفت السَّلبية التي ظهرت بها الشخصيات عن ثمّة مناخ من الاستسلام الكامل واليأس والعدمية مُهيمن، ومرجع هذا إلى غيابِ فكرة المشروع القومي الذي يربطُ بين الفردِ وجماعته حتّى أنّ الرِّواية تشيرُ بأصابع الاتِّهام للدولة في تعميق انتشار البطالة أو حتى بتهميش الشّباب، وكأنَّ الرِّواية بهذا المآل الذي انتهت إليه بطلتها من ضياعٍ وتشتُّت هي تجسيدٌ لضياع الوطن ذاته، وسقوط أفراده بين صراع الوعي الكائن والوعي المُمكن.
ممدوح فرّاج النّــابي