لطالما آمنت أن المرأة والرّجل كائن واحد، مع أني ولدت وكبرت في مجتمع يفرّق بين الجنسين منذ لحظة الولادة، بحيث تمتدُّ تلك التفريقات إلى آخر عمر المرأة. ويصرُّ أغلب من أعرفهم من النساء والرجال على أن المرأة هي سبب وضعها التعيس في العالم العربي، وأنّها ضد المساواة لأسباب تعود أصلا إلى أعباء الحرية…
هذا ما نسمعه، لأن ما نراه يختلف عمّا نعيشه.
مؤخرا فقط التقيت صديقا حكى لي ـ بحكم مهنته — كيف يمنع أغلب اللاجئين السوريين بناتهم من الالتحاق بالمدارس، ويفضلون أن تتزوج البنت ولو في عمر السادسة عشرة أو أقل.
حكايات صديقي حول وضع اللاجئين من النوع الذي يجعل السّامع يضحك مع الشُّعور العميق بالمرارة. فنحن في النهاية مجتمع المتناقضات العجيبة بامتياز، لدرجة أنني أصبحت أشك في أن كل ما دُوّن عن قاسم أمين ونضاله لتحرير المرأة إنّما دُوِّن من باب غرائبية قصته، مثله مثل «السندباد» و»علي بابا والأربعون حرامي»، وغيرها من القصص التي كانت تدهشنا لكثرة عناصر التشويق والإدهاش فيها.
فمثلا قلة من يعرفون أن قاسم أمين من أب تركي، لكنه ينسب لمصرية أمه أكثر مما يذكر نسبه الأبوي، وهذه إحدى غرائب الموضوع كله، فابن السيدة المصرية السعيدة الحظ نال ما لم ينله أترابه في أواخر سنوات الـ1800 التي كانت أتعس سنوات في تاريخ البلاد العربية كلها، وهي ترزح تحت الحكم العثماني… فالرجل خريج جامعة مونبيليه من فرنسا، يتقن الفرنسية، يفكر بطريقة غربية، ويحب بناته ويناضل من أجل حرية النساء.. ثم حين تلت حكاية هدى شعراوي حكاية قاسم أمين، تحدث التاريخ عن أول مظاهرات قامت بها النساء سنة 1919 للمطالبة بحقوقهن، لكنه أهمل كيف قمعت المظاهرات، ومن هن من ذهبن ضحية هذه المطالب.
هذه الثورة المصرية الطويلة للمطالبة بحق النساء حققت نتائج أرعبت المجتمع في الحقيقة، حين امتدت تأثيراتها إلى الجيران.. وفي أوج اليقظة النسائية في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي بدأت التيارات المعاكسة تعمل لعرقلة هذا التطور… ومع نهاية القرن، أصبحت المرأة نفسها «تناضل» للعودة للبيت، وتعدد الزوجات، أما اليوم «والحمد لله» فقد فُتِحت أسواق النّخاسة عندنا من جديد، وتوج «نضال» دعاة التدين المتطرف بإنجازات قطع الرؤوس، وبيع النساء بأثمان بخسة… مع ملاحظة أن بيع النساء لم يتوقف أبدا، فقد كانت مهور الزواج التعجيزية أحيانا سببا مباشرا لصب الغضب الذكوري على المرأة، مع أن البائع والشاري دائما هو الرجل. تعقد الزيجات كما لو أنها صفقات مربحة، ولهذا حوصرت المرأة حتى لا تحب وتعشق، فالحب كالسحر يجعل المرأة تمنح نفسها بدون مقابل للرجل الذي تحب.
لا غرابة إذن إن سمعنا قريبا عن رجال يسافرون من بلد إلى بلد «لاقتناء» نساء رخيصات بعشرين دولارا أو أقل. ولا غرابة بعد سنوات قليلة، بما أن تطورنا نحو الخلف سريع جدا، أن نجد من يقايض امرأة بسلة بيض، أو كيس بصل، أو صندوق بطاطا.
وعلى كل فلمزيد من المعلومات فقط فإن سعر الخروف في أسواقنا العربية قد يصل لـ300 دولار، أمّا البقرة فإن سعرها لا يقل عن 2500 دولار.
لست خبيرة بسعر الأبقار حتى لا تنهال عليّ الأسئلة بشأنها، فما أوردته إنّما من باب المقارنة فقط بين سعر المرأة في أسواق النخاسة الجديدة عندنا، وأسعار الأبقار، فهل ستبدأ ثورة جديدة للنساء بسبب تدني هذه الأسعار؟
أقول هذا لأن أغلب نسائنا المثقفات يعتبرن صفة «نسوية» تهمة… ولهذا فهن تهربن من هذه الشبهة لفترة سنوات طويلة جدا، ومارسن الصمت الذي جعل التيارات المتطرفة تنمو في هدوء، وحين بلغت السكين البلعوم الآن بدأن يتحركن ويعترفن شيئا فشيئا بأنهن نسويات.
مؤتمرات في كل مكان خلال الأشهر الأخيرة تنظمها نساء عربيات في عواصم عربية وغربية تناقش وضع المرأة المزري، وتبحث عن وسائل لإيقاف الحملة القمعية الشرسة على النساء في بؤر الحرب العربية اليوم. برامج تلفزيونية وإذاعية أصبحت يوميا تثير الموضوع، مقالات تغيرت نبرة أصحابها من الدعوة لردع تحرر المرأة إلى الدعوة لإنقاذ المرأة… وهذا يبدو غريبا، فقد كان الأسهل أن نواصل ما بدأه التنويريون العرب في بداية القرن الماضي، لنحقق الرخاء الذي نحلم به، لكننا مشينا عكس السير فحدثت كل هذه الكوارث.
فإن كان بعض نسائنا اليوم يُبعن في أسواق الذل بسعر دجاجة مذبوحة، فإن استباحتهن وهتك أعراضهن أصبح من أقبح وصمات العار التي لحقت بنا مؤخرا، وهذا أمر أدخلنا في متاهة، ضائعين بين أن ندافع عن سمعة الإسلام الطيبة وسمعتنا كمجتمع محافظ، وبين الالتفات لجراحنا ومحاولة تطبيبها. إذ ليس سهلا أن نعيد هذه الوحوش الكاسرة إلى بطون أمهاتهم الجاهلات، ونعمل «ريسايكل» لملايين العقول الفاسدة للحصول على منتوج إنساني جديد عندنا. إننا بحاجة إلى معجزة ربانية تفسر حكمة الخلق لهؤلاء، قبل أن نبدأ بعقد مؤتمرات في قاعات مغلقة في عواصم غربية (في الغالب) تضم الهاربات من مجتمعاتهن بسبب تخلف الأكثرية ومحاربتها لهن.
صحيح أننا متأخرون دوما في تبني نظريات الآخرين، ولكن بالنسبة للمرأة كان وضعنا أفضل حين كانت لدينا رموز نسائية قمة في الروعة مثل، جميلة بوحيرد الجزائرية، أو نوال المتوكل المغربية، وغيرهما، وكان مناسبا جدا أن نمضي قدما من تلك المرحلة، لكن تمشي الرياح بما لا تشتهي السفن، هبت علينا رياح «رجعية» كسرت تاريخ كل تلك القامات العظيمة التي توجت تاريخنا. واليوم أصبح علينا أن نصحح بعض الأفكار:
النساء هن شقائق الرجال وهن كائنات من الجنس نفسه الذي ينتمي إليه الرجال «بقدرة القادر»، لهذا يستحيل أن تكون أمك أفضل النساء في العالم، وأمهات باقي الرجال حثالات أو غنائم حرب.
ابنتك أو اختك لن تكون محترمة بين الناس ما لم تحترمها أنت أولا وتحميها، وإن أهنتها مرة واحدة أمام غيرك فقد فتحت باب الجحيم عليها، سيهينها كل من هب ودب، وتصبح مهزلة تعلك يوميا في الأفواه من خلف ظهرك.. و»اسأل مجرّب ولا تسأل حكيم..!».
لا تكتئب إن أحبت ابنتك شابا فهذه بوادر خير على أنها ليست شاذة، فمن غير المعقول أن تحب صبية مثلها، وتبقى سجينة علاقاتها الأنثوية فقط. كن مثلها الأعلى لتختار رجلا يشبهك، ولا تكن «الشبح» الذي يصنع كوابيس حياتها فترتمي في حضن أول سافل يمثل عليها دور المنقذ لها. كن صديقا لها فلا أجمل من صداقة الأب لابنته، وصداقة الأم لابنها… كونوا أصدقاء تجمعكم المودة والرحمة.. وخذوا الحكمة مني، لا يمكن لمجتمع نصفه مشلول بتعقيدات الحياة، مقيّد بأغلال عديدة تحدُّ من حركته أن يتحوّل إلى أمة محترمة.
قيّدوا أي حيوان أمامكم وتابعوا ماذا سيفعل، إن أطعمتموه وسقيتموه سيدجن مع الزمن، وإن جوّعتموه تحوّل إلى وحش، وأول شخص أمامه سيمزقه…
المصيبة أننا عشنا على مدى قرون مثل هذا الحيوان ومازلنا نفكر: أين الحل؟
فُكُّوا القيد رجاء… أطلقوا سراح هذا «الحيوان» ..دعوه يتدبر أمره…! وللحديث بقية إن شاء الله …
٭ إعلامية وشاعرة بحرينية
بروين حبيب