أصبح الفيسبوك برنامجا يوميا لأغلب شعراء وكتاب العرب المعاصرين، حيث يقضون وقتا مهما يقرأون ويكتبون. ويتواصلون بسخاء مع أصدقائهم الواقفين على سلالم البرد والشتات.. لنحصر الكلام في المغرب ونتوقف بالتحديد عند هذه الفئة التي اختارت الفيسبوك لترفع الكلفة بينها وبين القصيدة، هكذا بلا قفازات ولا أقنعة منفرة.
حسنا، هذا هو الشاعر محمد بنميلود الذي لا ينام، فهو موجود حتى في الرابعة صباحا مثل حارس عنب أمين، ونكاد نسمع نقرات أصابعه على الحاسوب وهو يدخن بشراهة. ويفخر بنميلود بأن الشعر منحه صداقات حقيقية تتخطى تونسالخضراء شرقا، وأن الفيسبوك عدّل كفة الميزان وأنصف جميع الشعراء. وهذا الشاعر عبد الرحيم الصايل مدرس اللغة العربية في الضواحي، يصرح بأنه اقترض مالا من البنك ليشتري حاسوبا كي يكتب شعرا ويرتب قصائده في أصص الليل بمهارة بستاني محترف لا يخاف الأفاعي النائمة في تجاويف جذوع الأشجار.
صفحة الصايل في الفيسبوك مهيبة وخالية من الشتائم، ويتواصل مع الجميع بنبل أمير. وهذا الشاعر والإعلامي سعيد الباز، الذي عاش تجربة النشر الورقي طويلا ولا يزال، تصعد أنفاسه خفيفة وغمازة من الحاسوب تماما كضيف جنوبي يسرع الخطوات حاملا سلة فواكه مغسولة بماء الغدير.
وصديقي الشاعر حميد علام الذي لا يعرف عدد قصائده المنشورة في الفيسبوك لحد الآن والممهورة بأختام السخرية التي تفوق «قبضة الريح» وهذا هو ديوانه الأول والوحيد.. وماذا أربعة شعراء فقط. لا.. إنهم موجودون على شساعة تضاريس اللغة والوطن، مداهمون وفي غاية الإصرار. لا يطلبون تعويضا ماديا ولا مجدا ببالونات ملونة. فقط تكفيهم نقرات حب تحت سطورهم الشفيفة كي يبتسموا كأطفال مظلومين.
وما المشكلة يا رأسي ..هناك صرير مكاتب كثيرة، حيث شعراء وكتاب المؤسسات مستاؤون ومنزعجون من الشعر المنشور في الفيسبوك، وفي المواقع الإلكترونية التي تبدي مرونة في تقديم المنتوج الأدبي.. نعم يريدون أن يعودوا بنا إلى حياة القن ومساجين الصحراء البعيدة، حيث الايديولوجيات والحسابات الشخصية وخنق الأصوات المضادة مرتبة بإتقان فوق مكاتب الجرائد والمجلات ولجان الجوائز. لمن نكتب أشعارنا إذن.. إلى بنات الجيران المسمومات. وماذا إذا كبرنا وتساقطت خصلات شعرنا الأمامية وزاد وزنا فوق ميزان بائع النخال الكبير, وتزوجت بنات الجيران الواحدة تلو الأخرى وبقينا نتفرج على عازف الكمان البدين, هكذا بدون امرأة كرهبان مخصيين. لمن نكتب بعد ذلك.. إلى عجائز المدينة الغاضبات لأتفه الأسباب واللواتي ينشرن أعضاءهن اليابسة فوق كراسي حدائق البلديات والكنائس المهجورة..
وأمامي الآن مجلة تصدر من احدى دول الخليج. نعم تصلنا، أيضا، من الخليج مجلات رصينة شاملة في الفكر والأدب وبأثمان رمزية وفي طباعة جيدة، لدرجة أننا نتلمس الأوراق ونتذكر كل تلك الأشجار العالية الواقفة بشموخ في غابات كثيفة، مثلما وصلت تمور جيدة من عراق الأمس إلى مطاعم المدارس وداخليات الصف الثانوي، على الأقل في هذا الوطن.. وماذا يهمني أن يكون حاكم بغداد قاسيا مع المعارضين ويدفن رؤوسهم الصلبة في التراب.
وأن تكون أمريكا غشاشة واستعمارية أنا الواقف في طابور طويل وسط البرد بجاكيت ممسوح وحذاء مهترئ بدون جوارب أنتظر دوري حول طاولة مستطيلة لألتهم تمر العراق وأدلق في جوفي حليب أمريكا الساخن.. من حسنات الطفولة أننا ندرك الأشياء الفظيعة بعد فوات الأوان، أو كما يقول قدماء العرب بعد تصرم الزمان.
أعود إلى المجلة المذكورة، حيث أحدهم يقول إن أغلب المواقع الإلكترونية المعنية بالأدب لا تقدم منتوجا أدبيا حقيقيا، وأن النصوص المنشورة ضحلة وعمومية في الصياغة.. إلى غير ذلك من المصطلحات النقدية الصلبة التي يحفظها عن ظهر صدر نقاد متجهمون كما لو يمشون في جنازة رجل محمول على جرار قديم، بالكاد تتقدم عجلاته وسط الوحل الأبيض.. وخارج المجلة اسمعوا قصة هذه الشاعرة الغشيمة التي تأففت وأبدت استياءها حين تناوب معها على المكروفون شعراء شباب..
مؤسف أن هؤلاء الآباء الأوصياء جميعهم تبعوا أدونيس طويلا، حتى اذا توغل بهم في صحراء العرب أغرقهم في الشتيمة المفخخة حتى الأذنين وقفل عائدا بابتسامة جانبية كمحتال قديم، ومؤسف أيضا أن التجريب بمخيلة مستعارة واستعجال تنزيل القصيدة والتباعد بين طرفي التشبيه في الصورة الشعرية، أضر بالقصيدة العربية في العمود الفقري. وأفضى بالقول الشعرى إلى المساحات المقفرة، حيث لا ماء ولا أشجار ولا طيور حتى.. فضلا على أن الفوز بالجائزة ومراكمة الإصدارات أمور لا تملأ دائما شروط الشاعر والكاتب الحقيقي.. خذ الآلة الحاسبة وقل لي عدد دواوين الشعر التي فازت بالجائزة وتجاوزت طبعتها الأولى.. وفي نهاية الأمر لسنا طلاب وظيفة أو شغل في شركة متعددة الجنسيات، حتى نحتاج إلى نهج سيرة كي نكتب الشعر. وليس بالضرورة الملحة أن نستوعب كتاب «قصيدة النثر» لسوزان برنار حتى نستقيم ونكتب قصيدتنا الصريحة..
ورغم أن الساحة الأدبية ليست سوقا أسبوعيا ولا الكتب ودواوين الشعر مجرد متلاشيات وملابس مستعملة معروضة كيفما اتفق وبطريقة تجارية سمجة، فإن حال بعض الشعراء والكتاب يغدو أشبه بالباعة الغشاشين الذين يتخلصون من سلعتهم الفاسدة في ساعات الصباح الأولى وينصرفون على عجل إلى المقاهي الضقية ليدخنوا تبغا رديئا ويشتموا الحكومة بكلمات بذيئة.
وكالحلوانيين الذي يعرضون سلعتهم فوق ألواح خشبية هزازة أمام بوابات المدارس، حيث مشهد الصغار يتكرر هكذا يد على محفظة الأغراض والأخرى على دكة السروال الواسع وعين على الحلوى التي ترصعها ذبابات ظريفة.. وطبعا على الضفة المقابلة والهادئة يوجد شعراء جديون مثل عمال مناجم ببزات كاكية تعبق برائحة تراب الوطن يكتبون ألمهم الوجودي على مهل غير آبهين بضجيج المؤسسات ومتأففين من الإكراميات وخزائن الذهب البراقة كفلاسفة حقيقيين. وأحرار مثل عنادل برية ساخرة من الأقفاص والأعشاش الاصطناعية.
قليلا من اللباقة يا أصدقاء الجرح والقصيدة.. دعونا نسوق أفكارنا السائبة إلى الأفق المزدهي بعبق زعتر الأوطان، حيث الجميلات بنهود ناهضة ومباسم حمراء تفوح منها رائحة قهوة ساخنة في صباحات قرى ومداشر تداعبها أصابع الضباب، وحيث البيوت منثورة على هضبة الأجداد كجواهر ثمينة فوق منديل عروس. دعونا نتصدق بالحلوى وسكاكر الليل على المتسولين الغرباء ونرمي القرد المجهول بحبات الفستق من ثقوب الخيال المخرومة.. ولا يهم أن تنام القصيدة في سطيحة محشوة بالريح والقطط الشريدة. أريد هزيمة كاملة يا أصدقاء.
*شاعر وكاتب مغربي
حسن بولهويشات*