تتميز الكتابة الروائية بأنها تحتمل ذلك الامتزاج ما بين الحدث السياسي والحالة الاجتماعية وترصد المشاعر الإنسانية للأبطال، الذين تتجاذبهم الخيوط الدرامية فتكشف عن صورة أخرى للحياة أكثر رحابة من تلك التي نعيشها، إذ ما نراه ونحن خارج الحدث يكون عادة أوضح من الذي نعيشه ونشارك فيه.
في العمل الروائي تتوافر للكاتب الحرية الكافية لتأمل ما يكتبه فبإمكانه معايشة الواقع بشكل مختلف فهو جزء من الحدث، وفي الوقت نفس مراقب له.
في رواية «سفر الثورة» للكاتب الروائي عاطف فتحي نلحظ هذه الميزة فهو يمتلك رفاهية التعبير والمشاركة، في ما يخص قضيته وموضوعه، لكونه متمرسا في الكتابة من ناحية ومشاركا وفاعلا في الأحداث من ناحية أخرى، ولا غرابة ولا غضاضة في ذلك، فالرجل يرسم ملامح الثورة كما عاشها، ويروي يومياتها منذ إرهاصاتها الأولى التي بدأت قبل 25 يناير/كانون الثاني 2011 بكثير، ولكنها تجلت في هذا اليوم التاريخي المشهود.
لم يعتمد عاطف فتحي أسلوب الكتابة السردية ولم يمل إلى الشكل التأثيري، وإنما تجرد من حماسه وشعوره الشخصي، وعمل على تتبع خيوط الأحداث والأشخاص ليصل إلى ذروة النهاية المحتومة، بالانفجار المدوي في جميع ميادين القاهرة، ثم مد بصره بعيدا ليطالعنا بما جرى في عموم مصر بتزامن دقيق مع اللحظة الفارقة في عمر الوطن.
ماكيت إبداعي رسمه الكاتب للثورة الشعبية المجيدة، اختلط فيه الواقع بالخيال في كثير من الأحيان، منطلقا من حقيقة لا تقبل الشك، وهي إجماع الجماهير على شيء واحد رأته ضروريا بعد ثلاثين عاما من القهر والصمت، ترجم بعد ثمانية عشر يوما من المقاومة والاعتصام في ميدان التحرير إلى قلب نظام الحكم وخلع الحاكم.
وفي خضم ما سجله فتحي وما رسمه من مشاهد رئيسية للحدث الجلل، لم ينس التفاصيل فقد أورد في سياقات متنوعة ومختلفة القوة الأمنية في عهد وزير الداخلية حبيب العادلي وما قامت به ضد الثوار وما ارتكبته من جرائم للحيلولة دون سقوط نظام مبارك ورموزه. وفي المقابل سلط الضوء على شخصيات أخرى كان لها شرف النضال والاستبسال من خيرة الشباب والبنات من الفصائل السياسية والأحزاب، ومن حملوا جينات التمرد ولم يوطنوا أنفسهم على الخنوع.
من بين الشخصيات الثرية في رواية «سفر الثورة» الصادرة عن مؤسسة دار الهلال، التي كشفت عن دور عظيم للمرأة في يوميات الاحتدام والمواجهة، شخصيتا نانسي ونادية، فالأولى صحافية أمريكية تعاطفت مع الثورة والثوار وربطتها بالبطل والراوي علاقة إنسانية وعاطفية، انطوت على نوع نادر من النبل أدى بها إلى القتل غدرا على يد القوة البوليسية الغاشمة التي اتهمتها بالتجسس لتشويه صورة الثوار.
أما نادية فتلك واحدة من اللاتي أبلين بلاء حسنا خلال الأيام العصيبة، ودفعن بأنفسهن في أتون النيران المستعرة لقاء تحقيق الغاية السامية المتمثلة في إزاحة الركام السياسي، الذي أتى به رهط الحكومات المتعاقبة على مدار أكثر من ربع قرن.
هناء المنوفي شخصية ثالثة من الشخصيات النسائية في الرواية مذيعة لها خصوصية في حياة البطل، فهي رغم كونها شقيقة لضابط أمن دولة كبير «تامر المنوفي» إلا أنها تناقضه في الصفات والطباع وتتمتع بقدر من الوطنية يجعلها أقرب إلى الشخصية الثورية منها إلى الشخصية السلطوية، وإن كان بها بعض العوار الأخلاقي المتصل بسلوكها التحرري وزواجها وطلاقها وعلاقتها الخاصة بأحد كتاب السيناريو الشبان.
تمضي الأحداث تباعا في الرواية فيلقي الضابط تامر المنوفي مصرعه ويوضع في مصاف الأبطال والشهداء، بينما هو في السياق الروائي قناص محترف استهدفت رصاصاته بعض الخارجين على القانون، فهو من وجهة نظر البعض شهيد والبعض الآخر قاتل، وتكريم الضابط بعد موته في الرواية ما يبرره بالطبع من وجهة نظر الأجهزة الأمنية، ولكنه يأتي مستهجنا ومرفوضا، من الذين يعادونه.
تنتهي الرواية الأدبية التراجيدية نهاية تجنح إلى التفاؤل نسبيا، فالبطل يحتوي حبيبته ويمضي بها رافعا الشعارات الوطنية والإصرار على استكمال المسيرة ولم الشمل وبداية جديدة لرحلة تحقيق الهدف الذي يتلخص في ثلاثة مطالب رئيسية «عيش، حرية، عدالة اجتماعية».
كمال القاضي