كانت اسطورة التكوين البابلية المكتوبة على الألواح الفخارية تنشد في أعياد رأس السنة في بابل، في أعياد الربيع تمثل عذابات تموز الإله. شبيه بذلك وعلى إحدى الرقم المكتشفة في أرشيف إيبلا (دولة مدنية اعتبارا من نهاية القرن 3 قبل الميلاد على تل مرديخ شمال سوريا) يترجم لنا المكتشف الإيطالي باولو ماتييه النص الأسطوري التالي من إحدى رقم إيبلا (إيبلا تعني الصخرة البيضاء، وهذا يعود للون صخور التل الكلسية):
تربض قلعة تيتافيلس على تلة مرتفعة تبعد 1.3 يوم مسير بشكل عمودي غرب البحر الأبيض. تنمو على حوافها المائلة 30 درجة أزهار الحب الليلكية الناعمة، التي تداعب أوراقها أولى نسمات صباحات آخر الصيف. وهذه القلعة تشرف على بساتين الفاكهة في السهل الممتد، التي تروى من ساقية الذهب التي تحاذيها. في الجانب المقابل تبدأ الأرض بالارتفاع لتشكل أحد التلال المحيطة. هنا تنتظم أشجار الزيتون المصفوفة بعناية لتشكل غاباتها الأنموذجية. لم ينس الزارعون أن يدعوا هنا وهناك بعض أشجار التين تنمو، لتكون ثمارها الحلوة قربانا لآلهة الزرع يأكل منها الجائعون. في هذه الجغرافيا شرق المتوسطية عرف العاشقان بعضهما بعضا منذ الطفولة. كانت تنتظره في كل صيف في الشرفة المطلة على الاتجاهات الأربعة.
كان هو يأتي في الصيف من حروبه التي لا تنتهي. في الصيف الرابع والعشرين انتظرته أولاس كعادتها، تنتقل من جهة إلى أخرى واضعة منكبيها على حجر السور الكلسي البارد، وهي تتأمل الطريق المؤدية إلى البوابة العالية، ورأسها مليء بالأسئلة والقلق. مضى الصيف وجاء الخريف ولم يأت مساب. في بداية الشتاء غزت البلاد جيوش الأنباط الذين أخذوها مع السبايا إلى بلادهم الواقعة بين البحر الميت والبحر الحي. وحيث أن الجلد البشري الأبيض كان نادرا في صحرائهم القاحلة والبوادي الفقيرة الألوان، ألبسوها الاسود الفاحم، وحجبوها لجمالها الأخاذ عن أعين الغرباء. مساب، الحبيب، حزن وقرر ترك حياة الحروب وسافر إلى ماوراء البحار على متن مركب ذي اشرعة كبيرة كاكية اللون.
بعد أربعين قرنا عاد مساب إلى البحر الأحمر يبحث في تاريخ العمارة وتاريخ المدن الخالية من الإنسان. راح يبحث عن معبد الحب الذي بنياه بأحلامهما لسحرة الشعر والمحبين على ضفاف البحر الأحمر. وجد قبائل الصحراء تسكن أطلاله. وهذه القبائل البدوية قبضت على مساب وسلمته إلى الأنباط في عاصمتهم آمون. في المعبد الكبير على أحد الجبال السبعة المشكلة للمدينة رمي في سجن مظلم. هنا تذكر بأنها سجينة أيضا ولكن بشكل آخر: استطاعوا تغيير كل ما كانت عليه من معتقد وطريقة حياة وأسلوب تفكير وتعبير وحتى الشكل الخارجي. إنه الميتامورفوز (التحول) الذهني والفيزيائي. وهؤلاء الجدد يصبحون ملتهبين في الإيمان. سيراؤوس، ملك الأنباط، سمح (لسبب ما) لاولاس وماساب أن يتبادلا الحديث في المعبد، لكن وحسب التقاليد المحلية، بشرط ألا يرى أحدهما الآخر. لم يسمع صوتها منذ 40 قرنا! حين رن جرس البدء، وقف هو على طرف ، وإذ به يسمع من الطرف الآخر صوتا لامرأة في خريف العمر، تتحدث بلهجة محلية صرفة بكل طلوعاها ونزولها. لم يخطر على باله ولا للحظه أنها هي! ولكنها كانت هي. الصدمة كانت عميقة ونشرت غيومها السوداء على المشهد، سيطر الصمت بين الكلمة والأخرى، أكثر من أي شيء آخر، وهكذا انتهت المرة الأولى. في المرة الثانية والأخيرة قالت: «لم تغب عني على امتداد القرون الطويلة الغابرة، ولا يوما واحدا. رب الأرباب أيل يقودنا إلى طريق ويقول: من هنا. ويجب علينا التحمل». قال: «أي درب نختاره في الحياة صعب. وظيفة العقل أن يزيح من أمامنا بعض عثرات الطريق». اكدت له: «أن المرء لا يمكن أن ينسى ثقافته، أرضه، منبته، أهله وناسه مهما حصل!». انتهى الوقت، وأغلقت القناة الواصلة للصوت، وسمح لمساب بالانصراف كرجل حر لأنه استطاع بمعرفته بفن الريازة إقناع سيراؤوس بأنه باحث آثاري ومعماري.
أثناء التخاطب اكتشفا أن كلا منهما وعلى طول الأيام والقرون، وحسب النظرية العصبية الذهنية، كان يصدر موجات قصيرة سريعة (3000 في الثانية) تلتقي مع الموجات القصيرة للآخر. هكذا كان عبر التراتوسفيره شيء يربط، يحمي، بدون ملل ولا كلل. لأنه أحد أسرار البقاء.
أراد أن يقول لها: «شكرا لك سيدتي على الأيام وعلى اللحظات ذات اللون الوردي، الأحمر القاني، وأحيانا الأخضر المشبع. في الخارج جلس على مقعد حجري طويل مسندا ظهرة إلى الجدار من خلفه. مرت عيناه على زرقة السماء، ولاحظ من مكانه فجأة أشعة ضوء الشمس النازلة من خلال فتحات في قبوة سقف المعبد التي تنشر نورها وتبدد ظلمة الفراغ الداخلي. انتبه إلى الشخص عن يمينه الذي افترش الأرض وبحضنه لوح من الغضار الطيني وهو يغمس بأداة كتابته وبأحرف مسمارية وبلغته المسمارية: منتصف شهر أيلول من العام 2014. (قبل الميلاد، ملاحظة ب.ص.).
أوراق الشجر بألوانها الكستنائية ومنها بلون قشر الرمان كانت تتساقط ذلك اليوم من الشجرة المعمرة على أحجار بازلت الشارع المستقيم، وتجمعها ريح بداية الخريف عند الحافة الداخلية اليمنى للباب الشرقي للمدينة القديمة. لقد كان يوما حزينا، قال لنفسه وهو يبتعد عن المعبد والمدينة ويلحظ الضوء اللين في العصر على تخوم الارض الممتدة أمامه. فكر بما لم يلفظوه لكنهم يدركوه جيدا: «أحيانا وفي بعض الأيام أتمكن من ألا أفكر بك!»، شعر بشيء من البرودة تتسلل إلى أعضائه، أصبحت خطواته أسرع وألقى نظرة أخيرة على المدينة وصوب عينيه من ثم باتجاه الأفق نحو الشمال.
*استاذ هندسة العمارة جامعة فيلادلفيا
بسام سابور*