نظرا لاستفحال ظاهرة الفساد المالي وتنوع أساليبه وتعدد مظاهره ، ونظرا لانعكاسات ذلك سواء على مستوى تكريس هشاشة سلطة الدولة وخلخلة مصداقيتها وفقدان المواطن الثقة في الإدارة نتيجة الشعور بلا مساواة وعدم تكافؤ الفرص ، أو على مستوى الرفع من تكلفة الأنشطة والخدمات الإدارية ، وتماشيا مع دعوة الرئيس محمد ولد عبد العزيز وعزمه على محاربة هذه الظاهرة المقيتة ؛ أريد هنا أن أدلي بدلوي في الموضوع وأغوص في رهان محاربة الفساد والذي يعتمد أساسا على إصلاح المنظومة الرقابية وإعادة الاعتبار لها.
إذ تكتسى هذه المنظومة أهمية خاصة ، فهي تشكل أحد المبادئ الأساسية للتدبير الإداري الحديث الفعال ، وأهم مرتكز من مرتكزات الحكامة الجيدة ، و تحتل أهمية كبيرة في العملية الإدارية وتعد من أهم ركائز هذه العملية ، وكما هو معلوم فإن الغرض من وراء إنشاء المرافق العمومية هو تقديم الخدمات للمواطنين وتلبية حاجياتهم ؛ ويأتي دور الأجهزة الرقابية لضمان تقديم هذه الخدمات وإشباع تلك الحاجات وبأسرع وقت وأحسن جودة وبأقل تكلفة وبالشكل المطلوب قانونا .
فالرقابة على الأموال العمومية تشكل في كل المجتمعات الديمقراطية أحد الركائز الأساسية التي يقام عليها صرح الحكم الرشيد ، بحيث يمكن اعتبارها عاملا جوهريا في اصلاح الدولة والمجتمع ، وأداة مهمة لترشيد وتدبير الموارد المالية والبشرية بل مدخلا أساسيا لتحقيق التنمية ، وعلى غرار باقي دول العالم تتمتع موريتانيا بأجهزة رقابية متنوعة ومتعددة التخصصات ، فهناك الرقابة السياسية (البرلمانية) والرقابة القضائية أو الرقابة العليا (محكمة الحسابات) والرقابة الإدارية أو الداخلية (المفتشيات) ، والقاسم المشترك بين كل هذه الأنواع والأجهزة المسؤولة عنها هو الضعف وقلة الكادر البشري وانعدام التكوين و التأطير والمحدودية من حيث الممارسة العملية ... فإلى أي حد يمكن أن تطلع هذه الأجهزة الرقابية بالدور المنوط بها في محاربة الفساد والقضاء عليه ؟؟
وبالرجوع إلى ظاهرة الفساد في موريتانيا القديمة قدم التصرف بالمال العام في هذا المنكب البرزخي و المتخذة أبعادا خطيرة وخاصة في السنوات الأخيرة ؛ حيث بلغت أرقام الاختلاس ميئات الملايين بل وصلت للميارات ودفعة واحدة ، مما عطل مشاريع التنمية وزاد من نسبة البطالة و أعداد الفقراء والمهمشين وذلك رغم الترسانة القانونية والأجهزة والآليات الرقابية التي تتمتع بها الدولة ، والتي من المفترض أن لا يكون للفساد مكان مع وجودها ، إلا أن الأجهزة الرقابية وتداخل اختصاصاتها مع عدم وجود الكادر القادر على تفعيها انعكس سلبا على وظيفتها ، ومن أجل إصلاح فعلي لمنظومة الرقابة تحفظ المال العام وتصونه سسنعرج هنا على كل نوع من أنواع هذه الرقابة ونرصد القصور ومكامن الخلل مع اقتراح لبعض الحلول وذلك كتالي:
أولا : الرقابة السياسية
إذا ما نظرنا لواقع الرقابة السياسية (عمل البرلمان) فإن المتتبع لها يخرج بنتيجة مفادها أن البرلمان بعيد عن ما يجب أن يقوم به ، رغم أنه تمكن من ممارسة الرقابة على المال العام منذ سنة 1962 ، والرقابة التي يقوم بها في مجملها مقيدة وذلك على عدة مستويات سواء على مستوى مسطرة المناقشة أو على مستوى مسطرة التصويت على قانون المالية ، والمتتبع للجمعية الوطنية يرى أن أكثر الآليات التي تعتمد عليها في عملها آليات لا يترتب عليها إثارة المسؤولية من قبيل الأسئلة البرلمانية ولجان تقصي الحقائق ، ولم تشهد موريتانيا تشكيل لجان تقصي الحقائق رغم وجود الإطار القانون المنظم لها إلا سنة 2008 وفي مسألة تتعلق بمؤسسة عمومية كانت تحظى بدعم من الدولة وكانت تديرها حرم الرئيس أنذاك السيدة ختو وهي القصة الشهيرة معلومة الأسباب والدوافع.
و لا تترتب إثارة المسؤولية الحكومية إلا لمناسبة التصويت على قانون التصفية وتوجيه ملتمس الرقابة ، ويمكن أن نلاحظ هنا أن التصفية لا تتم إلا بعد أعوام من صدورمشروع قانون الميزانية مما يفوت على البرلمان محاسبة الحكومة أو المقصر منها في الوقت المناسب ... وفي ما يخص ملتمس الرقابة فهناك عوائق هو الآخر تحول دون تطبيقه على الوجه الأكمل من أهمها حتمية توقيع ثلث أعضاء الجمعية الوطنية على الأقل وهو ما لم يحدث إلا سنة 2008 فقط حيث حركت الأغلبية البرلمانية هذا الملتمس ضد حكومة السيد يحي ولد الواقف .. والقانون الذي ينظمه بحاجة ماسة للتفعيل ، إن الرقابة البرلمانية بحاجة إلى المراجعة من أجل تفعيل دورها والسادة النواب بحاجة إلى دورات تكوينة وتدريبة ....
ثانيا: الرقابة العليا أو القضائية
وهي رقابة تقوم بها مؤسسة مستقلة متمثلة في محكمة الحسابات وهي سلطة قضائية تصدر الأحكام التأديبية والعقوبات المالية على القائمين بمسؤولية تنفيذ العمليات المالية ، كما تقوم بدور توجيهي وتقييمي للمؤسسات العمومية ، وتعد هذه الرقابة اختصاصا جوهريا وهاما بالنسبة للمحكمة ، ويعد اختصاص النظر في الحسابات من أبرز الاختصاصات المسندة للمحاكم المالية عامة ، حيث تنصب المراقبة في هذا المجال على التأكيد من مدى سلامة عمليات المداخيل والنفقات التي أنجزها المحاسب ومدى مطابقتها للمقتضيات القانونية والتنظيمية الجاري بها العمل. كما تتمتع هذه المحكمة بأدوار غير قضائية فأصبحت لها سلطة إدارة في ما يتعلق برقابة التسيير وأدوار استشارية متشعبة تشعب علاقات المحكمة.
إلا أن واقع عمل هذه المحكمة بعيد كل البعد عن ما يجب أن تقوم به فآخر تقرير تصدره كان لعام 2006 وصدر سنة 2009 ومن المفترض أن تكون تصدر تقريرا كل عام ؛ وهو ما ساعد المفسدين على اختلاس المليارات التي تم الكشف عن بعضها في الأيام الأخيرة ، ويرجع السبب في عدم قيام هذه المحكمة والمؤسسة المهمة في رقابة المال العام من ضعف الكادر البشري الذي يسيرها وقلته إن لم نقل انعدامه وهو مظهر آخر من مظاهر الفساد ، فمن المفترض أن تغطى هذه المحكمة جميع التراب الوطني بحكم مسؤوليتها عن جميع مؤسسات الدولة وهيئاتها وكذلك المؤسسات المختلطة التي تملك الدولة نسبة 50 % من رأس مالها ، فهذا الجهاز الذي يعتبر أهم جهاز رقابي في جميع أنحاء العالم وأكثره عدة وعتاد عمالا وموظفين ، إلا أن وطننا يبدو أنه نشار من بين دول العالم فلا يتجاوز موظفوا محكمة الحسابات في موريتانيا أشخاص يعدون على أصابع اليد ومع ذلك نتوقع منهم تدقيقا لكل الحسابات وتمحيصا لكل العمليات !! .
إن الطريق لمحاربة الفساد يبدأ من إصلاح هذه المؤسسة المهمة واكتتاب موظفين لها، فهذا الجهاز هو أعلى جهاز رقابي خارجي مستقل ومسؤول عن كل العمليات ، وتفعيل دوره هو مربط الفرس في محاربة أي فساد ، فهي وحدها القادرة على كشف جميع عمليات الفساد والتحايل نتيجة السلطات المخولة لها قانونا .
ثالثا: الرقابة الداخلية
وهي رقابة تتولاها الإدارة بنفسها ومن أبرز صورها آلية التفتيش وهي رقابة لاحقة أو بعدية تتم بعد تنفيذ الميزانية وهدفها ليس الحيولة دون وقوع أخطاء بل الكشف عن تلك الأخطاء بعد وقوعها ، وهو دور محدود نظرا لعدم توفرها من الناحية المسطرية على إمكانية توقيع الزجر وكونها محصورة بالأساس في أعمال المحاسبين العموميين التابعين للخزينة العامة من جهة أخرى.
وتتداخل المؤسسات والهيئات التي تقوم بهذه الرقابة فهناك المفتشية العامة للمالية والتي تمارس الرقابة على المال العام وتتمثل أهميتها في الحماية النسبية التي تتوفر عليها من جهة واستقلاليتها من جهة أخرى خصوصا في الفترة الأخيرة التي شهدت انتعاشا نسبيا رغم أنها ما زالت بحاجة إلى إصلاح ، واستقلالية عملية أكثر ، وتأتي المفتشية العامة للدولة في أولوية المؤسسات الرقابية الإدارية وتختص باختصاصات واسعة في مجال الرقابة والتدقيق وتشمل رقابة التنظيم والتسيير الإداري والمالي والمحاسبي لكافة المصالح العمومية للدولة والجماعات المحلية والشركات ذات الرأسمال العام ، وهي من أكثر المؤسسات الإدارية حيوية ونشاطا وأكثرها عملا في مجال الرقابة في الوقت الحالي .
وباعتبار المفتشية العامة للدولة هي أبهى صور الرقابة الإدارية في موريتانيا وأكثرها فاعلية فإن هذه الهيئة ما زال يؤخذ عليها عدم الاستمرارية في عمليات التفتيش كما يؤخذ عليها تبعيتها للوزير الأول وهو ما يوحى بعدم استقلاليتها.
وفي الختام يمكن أن نقول أن بعض النصوص التي تنظم الرقابة المالية لا تساير الوضع الحالي وذلك لكون بعضها قد تقادم والبعض الآخر لا يسمح لبعض الهيئات الرقابة بسلطة زجرية كما هو الحال بالنسبة للمفتشين الماليين ونفس الشيء بالنسبة للرقابة السياسية التي تعاني بعض المعوقات التقنية ( غياب الكادر التقني ) ، ودستورية تمنع البرلمان من اقتراح زيادة النفقات أو نقصانها أو صعوبة تشكيل لجان تقصي الحقائق ينضاف إلى ذلك عدم فاعلية اللجنة المالية، وبخصوص الرقابة القضائية فهي تتميز ببعض الاكراهات من حيث اختصاصاتها من قبيل التعقيد والتداخل والمركزية المفرطة للرقابة العليا وغياب التنسيق بينها وبين الأجهزة الرقابية الأخرى.
وعلى العموم فلا يمكن أن يقضى على الفساد أو ندعى محاربته ما زالت هذه الأجهزة دون المستوى المطلوب فأي خلل فيها يساعد على نمو الفساد وتطوره وأي تطور فيها هو الضمان الفعلي لمحاربة الفساد والقضاء عليه.
الطالب مصطف ولد أحمد سالم / خبير مالي