عبد الله البو أحمد عبد
بجرأة لافتة اقتحمت المرأة الموريتانية عالم الرجال في مجتمع ظلّ حتى وقت قريب وفياً لتقاليد صارمة ترسم للمرأة عالمها الخاص من الولادة حتى الوفاة. عالمٌ محصور، غالباً، بين أطناب خيمة في البادية، وجدران منزل في المدينة، حيث تتفرّغ المرأة لتربية أبنائها وفق تقاليد القبيلة والطبقة الاجتماعية، وممارسة أعمال منزلية كالطبخ والحياكة وتصنيع أدوات بسيطة للاستخدام المحلي.
شكلَ الجفاف الذي ضرب موريتانيا، في سبعينيات القرن الماضي، منعطفاً حاسماً في حياة المجتمع الذي كان يعتمد على الفلاحة والزراعة. فدفع نفوق قطعان المواشي وجفاف الحقول آلاف الأسر للهجرة إلى المدن.
لم تكن المرأة الموريتانية استثناءاً من هذا التحول، إذ اتخذت مكانها سريعاً إلى جانب الرجل. لكنّ التكيّف مع ظروف الحياة الحضرية لم يكن بتلك السهولة لا سيما أنّ عمل المرأة اصطدم بمعارضة اجتماعية واسعة من الأوساط المحافظة التي تحظّر أيضاً دراسة الفتيات في المدارس الحديثة.
ظهرت آثار حرمان كثير من الفتيات من الدراسة على حياتهن نفسياً واجتماعياً، وعلى مستقبلهن المهنيّ أيضاً. تتذكر منى (28 عاماً) بحسرة بالغة تركها لمقاعد الدراسة، ودخولها مبكراً إلى البيت الزوجيّ، في مجتمع يعتبر الزواج قراراً أبوياً في الدرجة الأولى.
يشير دفتر التزامات المنظمة الإفريقية لحقوق المرأة لعام 2009 إلى أن التحاق البنات بالمدارس في موريتانيا يتراجع عند سن الثانية عشرة إذ يبدأن الانخراط في الحياة المهنية أو الزوجية. بحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2013، وصلت نسبة التعليم في صفوف الفتيات إلى 51.02% ونسبة وصولهنّ إلى المستويين الثانوي والعالي إلى 8%. مع ذلك نجح الكثير من الفتيات في الإفلات من قبضة الزواج المبكر ومن التسرب المدرسي، فحققن بذلك أسطورتهن الخاصة. ريم (27 عاماً) إدارية في إحدى الشركات تعتبر أنها كانت محظوظة جداً، وتضيف: "إن عائلتي شجّعتني على الدراسة والعمل ولم تمانع سفري عندما تطلّب الأمر ذلك. تتعلّق المسألة بالبيئة الاجتماعية ونمط تفكير الأسرة".
والواقع أنّ العقلية الاجتماعية في موريتانيا تطوّرت بشكل لافت خلال العقود الأخيرة، بعدما أسّس انتشار التعليم والإعلام لبناء رأي عام مسانداً لتحرّر المرأة ومشاركتها في الحياة المهنية.
ومعلوم أن النساء المتعلمات يشغلن وظائف حكومية في مختلف القطاعات إلى جانب الرجال، وقد بلغت نسبة تمثيل المرأة في البرلمان 21% في العام 2013. أما اللواتي ينحدرن من أوساط ميسورة وفي متناولهن رساميل متوسطة أو كبيرة، فيفضّلن ممارسة النشاطات التجارية، ويستوردن الألبسة والأثاث من إيطاليا وإسبانيا والهند والإمارات. وعلى الرغم من الصعوبات الكبيرة التي تواجهها سيدات الأعمال، فقد حققن الكثير من الإنجازات.
في المدينة، تحوّلت العلاقة بين النساء من عصبية اجتماعية قائمة على الولاء العرقي لمجموعة واحدة إلى علاقة قائمة على المصالح الاقتصادية والاجتماعية المشتركة في إطار اتحادات وتعاونيات نسوية تُنظّم وتدعم عمل المرأة في المجالات المختلفة. وأثمرت تلك الجهود بناء أكبر مركز تجاري نسوي في العاصمة، وهو المركز المعروفبسوق شنقيط أو سوق النساء الذي بلغت تكلفته الإجمالية 475 مليون أوقية (نحو 950 ألف دولار) ممولة من اتحاد النساء الموريتانيات، الذي يوفّر دخلاً شهرياً منتظماً لأكثر من 240 أسرة.
لا شكّ أنّ عمل المرأة أثار في البداية الكثير من الانتقادات في وسط اجتماعي متدين ومحافظ قبل أن يلقى مع مرور الأيام ونجاح معظم التجارب التجارية النسائية، القبول الاجتماعي. ولعلّ هذا ما شجّع الكثيرات على المضي قدماً في اقتحام مجالات أبعد بكثير. فدخلن قطاع الجيش والشرطة والأمن والحماية المدنية، فضلاً عن القضاء والإعلام والتعليم والصحة والخدمات. يأتي قطاع المال في صدارة الحضور النسائي في القطاعات الحكومية بـ27.78%، يليها قطاع التقنيات والتكوين المهني بـ15.08%، بحسب آخر التقديرات الرسمية، وتعمل الحكومة، من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية، على تعزيز هذه المكتسبات بفضل دعم المشاريع المدرّة للدخل، على النساء الأكثر فقراً، وتفعيل التمييز الإيجابي لمصلحة المرأة، ورفع نسبة المنح الدراسية المخصصة للطالبات من 2.5% إلى 6.05% علاوة على المساواة في سن التقاعد بين الجنسين، من بين حزمة إجراءات أخرى كما يؤكد المستشار الإعلامي في وزارة الشؤون الاجتماعية سيدي ولد بيادة.
يعتبر واقع الفئة المتعلمة من السيدات أفضل جداً من واقع فئة أخرى من بنات الريف اللواتي حرمن التعليم والتكوين نتيجة انتمائهن لفئات اجتماعية مهمشة. تنهض أمهات العائلات الفقيرة، في الغالب، بمسؤولية أسر بأكملها، ويعملن في ظروف صعبة وقاسية حيث الفقر والأمية والتفكك الأسري.
تقول مريم (59 عاماً) التي تعمل بائعة متجولة: "جئت إلى المدينة بعد أن قضى الجفاف على المواشي والحقول. الحياة هنا صعبة، أعمل من أجل توفير لقمة العيش لأبنائي الأيتام. علي أن أعمل كي لا يموت أولادي من الجوع". أما فاطمة (بائعة تبغ)، فتعمل لتعين زوجها في تدبير شؤون المنزل. تقول لرصيف22 "متطلبات المدينة كثيرة وعمل زوجي متواضع وأجره الزهيد لا يغطي مصاريفنا اليومية. يراوح الدخل ما بين 500 إلى 1500 أوقية، (ما يعادل 1.72 إلى 3.44 دولار). بعد دفع تكاليف النقل، يبقى مبلغ قليل أشتري به الغذاء لأولادي وأؤمّن لهم اللباس والأدوات المدرسية" وتتابع: "إنها مهنة شاقة، فأنا وزميلاتي نتعرض لحر الشمس في الصيف وللبرد القارس في الشتاء، وللغبار ودخان السيارات. أسأل نفسي لماذا لا توفر السلطات لنا مكاناً لائقاً لتسويق بضاعتنا، وتدعمنا بدل مطاردتنا في الشوارع بحجة عدم الترخيص".
وتلخّص الناشطة السياسية العربية بنت أهلنا واقع المرأة قائلة: "إن المرأة لم تصل بعدُ للمكانة التي تستحق لأسباب عدة. ولكن مع ذلك، هنالك محاولات شجاعة ونساء ناجحات لهن بصمة مميزة في الساحة، وقد فرضن أنفسهن بقوة".
لم تعد المرأة الموريتانية مجرّد جزء من ديكور البيت، أو عضو مشلول في المجتمع بفعل التقاليد والأعراف، بل أصبحت فاعلة وناشطة على المستويات كافة. ومع أن التفاوت كبير بين طبيعة الأعمال التي تمارسها المرأة في موريتانيا، تبعاً لمكانتها ومركزها الاجتماعي ومستواها التعليمي، فإن خيطاً واحداً يجمع هذه المهن، هو البحث عن تحقيق الذات وتغيير الصورة النمطية التي تحتفظ بها الذاكرة المشتركة عن المرأة. النساء الموريتانيات يبحثن عن تحقيق المزيد، وتسجيل نقاط جديدة في مواجهة التقاليد والأعراف، وإلى هذا يشير المثل الشعبي المحلي القائل: "إذا أعطيت المرأة شبراً، فإنها ستأخذ ذراعاً".
المصدر: رصيف 22
--