}وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ{صدق الله العظيم
جاء في بعض أدق تعريفات "الفساد" عن معجم "أوكسفورد الإنكليزي" أنه يعني انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة، و أنه عند منظمة الشفافية العالمية استغلال السلطة من اجل المنفعة الخاصة، فيما يعرفه "البنك الدولي" بأنه إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص. و أما التعريف العام لمفهوم الفساد لغويا فإنه اللهو واللعب وأخذ المال ظلماً من دون وجه حق، مما يجعل تلك التعابير المتعددة عن مفهوم الفساد، توجه المصطلح نحو إفراز معنى يناقض المدلول السلبي للفساد، فهو ضد الجد القائم على فعل الائتمان على ما هو تحت اليد في القدرة والتصرف.
لكن تعريف الفساد ارتبط لا شعوريا عند الموريتانيين - منذ أيام "السيبة" التي سبقت دخول الاستعمار- في معناه العملي و بعده اللفظي، بالجرأة القصوى و الاستحواذ الغاشم على كل ما يتراءى للنظر أو تصله اليد في دائرة الحيز المكاني، للتصرف فيه تصريف المالك في ملكه.
من هنا فإنه لا شك بالأهمية التي اكتسبتها الحرب ضد الفساد التي وعد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، في برنامجه الانتخابي لرئاسيات 2008، بشنها حربا لا هوادة فيها و محاسبة الضالعين في كل عمليات السطو على مقدرات البلد و ركوبها مطية إلى الثراء و لي أعناق الضعفاء؛ و هو الوعد الذي شرع في تنفيذه مباشرة على أرض الواقع بشكل عملي و لأول مرة بعيد تسلمه مقاليد كحم البلاد و تسييرها لمأموريته أولى التي تدوم خمس سنوات. و هي الحرب التي شكلت فعلا يومها موقفا مبتكرا اتسم بالشجاعة النادرة، و كانت أيضا بمقاييس التجديد خروجا موفقا على مألوف السكوت على تبذير مقدرات البلد نهبا و سوء تسيير و على ما كان يُشجعُ عليه من وراء صمت رهيب من غض الطرف عن أهله و تركهم في طغيانهم يعمهون لا يُسألون حتى يحاسبوا و لا يتورعون في غياب تام لأي وخز من الضمير.
و لا ريب أيضا أن الشعب الموريتاني كان قد تلقف يومها إعلان الحرب هذا بفرح عارم و امتنان شديد من خلال ما بادر عن الإفصاح عنه من تعليقه على نتائجها، حربا مصيرية، من الآمال العريضة ملخصا إياها في حصول إصلاح شامل طالما انتظره بفارغ الصبر و تاق إلي تحقيقه بكل حواسه و مجسدا في سياسة رشيدة توزع خيرات البلد بعدل و إنصاف على جميع ولاياته و تشجع سكانها على البقاء و الارتباط بها بشكل أوثق من خلال مشاركتهم الفعلية في تنميتها و وصلها بنظيراتها على امتداد تراب الوطن.
و لما أن هذه الحرب التي قامت بالفعل وسط تشكيك من خصومه ورفض شديد من المفسدين و المبذرين أنفسهم و المستفيدين من التسيب و سوء التسيير تجارا و مقاولين، سماسرة و متزلفين، طفيليين و غيرهم كثير من الجوارح و الضواري و ضباع الفتاة و الفضلات، فإنها سرعان ما آتت بعض أكلها متمثلا إذ ذاك في:
- استرجاع مئات السيارات رباعية الدفع التي كان أغلبها يستخدم في تتبع الماشية من إبل و بقر و غنم وسط براري و في سفوح و وهاد البلاد من كل جهة تتبعا للمراعي و انتجاعا في خصبها لحساب فئة أصحاب النفوذ المتخمين بالأموال الطائلة التي نهبوها في غياب الوازعين الديني و الخلقي الرادعين،
- و ضعفها من المركبات الصغيرة الحجم التي كانت توزع كقطع الحلوى الرخيصة على أفراد عائلاتهم و من يدور في فلكهم من الانتهازيين في استهتار بالغ السفور بهيبة الدولة و تعمد مكشوف لاستخدام النفوذ من خلال الموقع الوظيفي أو السياسي،أو الجاه الإقطاعي والرجعي،
- وقف سيل الفواتير المغلظة القيمة النقدية مقابل خدمات و تجهيزات و استشارات وهمية تقبض سيولة نهارا جهارا و توزع بين شريحة من التجار و السماسرة الذي ولدوا من رحم هذا العسف الشديد بالوطن و مقدراته،
- و حظر المكالمات الهاتفية الدولية التي كانت فواتيرها جرحا نازفا في الخزينة العامة،
- و الحد من تعدد الوظائف الوهمية و ما كان يترتب على ذلك من استنزاف لميزانيات المؤسسات العمومية و سد ظالم للأبواب أمام إمكانية توظيف المئات من الشباب العاطلين و تناقص في الخدمات الضرورية لغياب الكفاءات و إخلال بعملية التنمية المطلوبة بإلحاح و عجز صارخ عن بسط العدالة بين المواطنين،
و على وقع هذا التحول الذي كان بعيد المنال صحت ضمائر رفض واقع فساد شرعته و اعتمدته منذ الاستقلال رواسب عقليات الماضي و قد ضربت عليه أسوارا من الحماية الخارجة على ضوابط القانون و الفالتة من تطبيقاته. و هو الوعي لدى القاعدة العريضة من الشعب التي ترزح تحت وطأة واقع الفساد هذا و حاولت الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها أن تسحبه إلى داخل خطاباتها و في مسطرة مطالباتها و لكن عبثا فعلت فإن مناعة الفساد المكتسبة حاضرة في ذهنية الجميع و ليست مكافحته محل إجماع، على الأقل فيما يتعلق بمحاسبة جميع المفسدين الذين تورطوا يوما في إهدار المال العام أو كان لهم ضلع في ما عانت البلاد من سوء تسيير مرافقها و مداخل كل مقدراتها المنجمية و البحرية و جبايتها الضرائبية.
و لأن الأمر يتعلق أساسا و في الجوهر بالعقليات المستحكمة من خلال رواسب الماضي المتجاوز في الفعل المدني الذي كان من المفروض أن يلتحم - منذ نصف قرن يزيد اربعا من السنين على قيام الاستقلال و دولة المواطنة المركزية - بمعطيات الحداثة و إملاءات العولمة، فإن الالتقاء على محاربة الفساد ظل بذلك عصيا على التحقق و إن المشوار بصبر المُصٍرين قادة و مناضلين لا يزال هو كذلك طويلا ما باتت عقبة العقلية الرجعية الكأداء التي تعتبرُ الحاضرَ ملك الماضي قائمة.
و إذ الأمر على هذا النحو لا تغيره المستجدات و لا التحولات العميقة من حولنا، فإن الحرب التي يجب إشعالها و بقوة هي حرب على العقليات المدمرة القائمة بكل تضاريسها القبلية و الجهوية و الطبقية و الإثنية و الربحية في دائرة الأعمال، حرب يجب أن ينخرط فيها كل شباب الطيف السياسي و من داخل المجتمع المدني و في القواعد العريضة من الموظفين البسطاء، المغلوبين على أمرهم و المحاصرة أصواتهم، علما بأنهم جميعا في خندق واحد و أمام مسؤولية مشتركة و تحديات جمة أقلها دون الحصر ما هو غالب من:
• ضعف الانتماء الوطني وشيوع أنماط السلوك والتفكير الاجتماعية السلبية من الطبقية والنزعة القبلية و العشائرية القائمة على النسب والقرابة و هي كلها محصلة لتخلف النمو الاجتماعي،
• ضعف أجهزة الرقابة في الدولة وعدم استقلاليتها،
• تدني رواتب العاملين في القطاع العام وارتفاع مستوى المعيشة مما يشكل بيئة ملائمة لقيام بعض العاملين بالبحث عن مصادر مالية أخرى،
• غياب أو عدم الالتزام بقواعد العمل والإجراءات المكتوبة ومدونات السلوك للموظفين في قطاعات العمل العام و والخاص،
• معاناة الأعلام من عدم السماح له أو للمواطنين بالوصول إلى المعلومات والسجلات العامة، مما يحول دون ممارسة الدور الرقابي على أعمال المؤسسات العامة،
• ضعف دور مؤسسات المجتمع المدني في الرقابة على الأداء الحكومي أو عدم تمتعها بالحيادية في عملها،
• غياب التشريعات والهيئات التي تكافح الفساد وتفرض العقوبات على مرتكبيه،
• انخفاض المخاطر المترتبة على القيام بسلوك فاسد، بسبب عدم وجود عقوبات رادعه وضعف الرقابة الحكومية،
• تعيين العاملين على أساس الولاء و درجة القرابة و الانتماء الطائفي، و القبلى، و العشائري، و الطبقي، و السياسي، و ألاثني و ليس على أساس الكفاءة،
• تغير نظرة المجتمع للأشخاص الذين يقومون بأعمال و ممارسات الفساد من رشوة واختلاس واحتيال ونهب المال العام والخاص،
• ضعف السلطتين القضائية و التشريعية و خضوعها من بعض الزوايا للسلطة التنفيذية.
و علما بأنه من الضروري في الانخراط في هذه الحرب من المطالبة بوسائل مكافحة الفساد التالية:
• وضع ضوابط للمنافسة بين القطاعين العام والخاص كدعم القطاع العام، وتفعيل الرقابة فيه، وتحفيز العاملين به، وان يكون لكل قطاع مجالات محدده مقصورة عليه وحده .و بالتالى يصبح من غير الممكن أن تنتقل قوة العمل أو الاستثمارات أو الأدوات أو البضائع أو الخدمات... من القطاع العام الى القطاع الخاص أو العكس،
• التأكيد على دور الدولة في إدارة الاقتصاد مع العمل على إصلاح القطاع العام و تطهيره من وسطوة رجال الأعمال الفاسدين والبيروقراطية والاختلال الإداري،
• مراجعة سياسة الخصخصة و برسم تأمل جديد حول الآلية الأساسية للعولمة في شكلها الليبرالي و اتخاذ موقف نقدي منها قائم على العمل على الابتعاد و لو مرحليا عن خصخصة المؤسسات ألاستراتيجيه والسلع و الخدمات الضرورية، وضمان شفافية وديمقراطية الخصخصة للقطاعات والسلع و الخدمات الأخرى بالرجوع إلي الشعب و اعتماد رقابه الدولة،
• تطوير نظام اختيار وتعيين وترقية العاملين اعتمادا على مبدأ الكفائه وليس الولاء،
• الفصل الفعلي و التطبيقي بين السلطات التشريعية والتنفيذية و والقضائية ،
• تمكين الصحافة والرأي العام من أن يصبحوا أداة حاضرة و فعالة للرقابة،
• إصدار قوانين صارمة لمكافحة الفساد وتطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟"،
• استعادة الدولة هيبتها وبسط سيادة القانون مهما كلف الثمن.
و طبعا فإن الموجة الجديدة من التسلط على المال العام، التي اندلعت منذ فترة في أقاصي نقاط البلاد و في بعض الإدارات و المؤسسات العمومية و غذت بنتانتها وسائل الإعلام و أطلقت العنان للحوارات داخل الصالونات و في الأحياء الشعبية و على أرصفة الشوارع و المقاهي، ليست إلا نتيجة لغياب نسبي لهذه الإجراءات و تراخ في المتابعة و المراقبة.
و إنه لجدير بالذكر في هذا المنعطف الجديد أن تلك الممارسات الضارة و أولها الجرأة السافرة على الاختلاس على مدى أشهر متتالية في حل من أي محاسبة أو مساءلة أو ردع، قد حصلت لأن أغلب مرتكبيها يتمتعون بقدر لا تخطئه العين من الرعاية و الحماية و الذي و إن كان غير معلن فإن مصدره يظل بعض أهل النفوذ السلطوي الموارين وراء حيز من الوجاهة التقليدية أو السياسية التي ما زالت تتدثر هي الأخرى بلبوس الاعتبارات الفئوية و تتقاسم الحيزين المعنوي و الحضوري في دائرة الحوزة الترابية بمنطق الماضي.
كما إنه لا سبيل مطلقا، في ظل بقاء هذا المنطق المختل في الزمن الخطأ، إلى معالجة قانونية و إدارية للفساد في حيز منطق نفوذ دولة القانون و المواطنة، علما بأن المنطقين متوازيين لا يلتقيان أبدا.
و لكنه باتضاح الأمر على هذا النحو و علما بأن مكافحة الفساد، تلك الآفة الخبيثة و المدمرة، هي إحدى المداخل الهامة لتعزيز حكم القانون والمؤسسات وبناء الديمقراطية وحماية مقدرات البلد و اقتصاده الوطني، فإنه لا بد من تطبيق مبدأ الصرامة و العزم على بلوغ المقصد بالضرب الشديد على العقليات السقيمة التي لا يريد أهلها الذين تجري لهم الرياح بما تشتهي سفن الفساد و تتسع مرافئ تبذير مقدرات البلد للرسو الآمن، أن ترتقي الدولة إلى حيز حكم القانون و نشر العدالة بين أفرادها.