أضحى سؤال التجريب في المسرح المغربي قضية مركزية ورهانا ثقافيا فرضته تحولات المجتمع، ولأن الإبداع عملية متجدّدة ومتغيّرة في آن واحد، تحكمها مجموعة من العوامل والمحفزات.
فقد أضحت قضية التجريب هي قضية المسرح والفن عموما، وبحكم الانتماء إلى الحياة فإن الفنان يبدع وهو يعايش معطياته الحضارية ولحظته الراهنة، في الفترة التي يعبر فيها عن معاناة الناس، بشكل يجعله يعيد النظر في كثير من الثوابت، هذه التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي والعربي عموما، جعلت مؤسسة المسرح والفنان المسرحي في قلب الواجهة، يراكم منذ سبعينات القرن المنصرم تجربة غنية أسهم في إرساء لبناتها ثلة من المسرحيين الذين استمر عطاؤهم حتى حدود اللحظة، وهم في ذلك كانوا يؤسسون لمفهوم التجريب، كما طرح عند الغربيين بالبحث عن الوسائل والآليات الأكثر نجاعة في تحقيق الفرجة المسرحية، وبالتالي بناء العرض المسرحي على رؤى وتصورات واضحة، وإخضاع الممارسة المسرحية لقوانينها الثابتة، والاشتغال على الممثل الصانع الأساسي لفعل الفرجة.
ومادام التجديد فعلٌ حتميٌ كما تقتضي السنن الكونية، فإن دائرة التجريب تتسع أمام المشتغلين بفعل الفرجة، فهم يريدون أن ينقلوا الناس إلى واقع جديد وحلم متفائل، مع مجاوزة القيم التي ثبت تآكلها. إن أخطر مأزق يمكن أن يواجه أي حركة في مسيرتها الفكرية والإبداعية هو أن تجد نفسها بعد فترة قد تطول أو تقصر أمام الباب المسدود، وأن تضطر تحت ضغط الواقع لكي تراجع طروحاتها ومقولاتها، من هنا ارتبط التجريب بالرغبة في الانفتاح على الآني والتدفق في المستقبل وخلخلة السائد والمُستقر، والاحتفاظ به إذا أثبت صلاحيته وبقاءَه أو يتوارى إلى الظل ويتلاشى مع مرور الزمن.
غير أن السؤال المركزي الذي ينطرح بهذا الخصوص في خضم التحولات الجارية، هل استطاع مسرحنا المغربي تجديد أسئلته وتجاوز الإشكالات المزمنة واستيعاب خصوصية المرحلة، وهضم التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يمر منها المجتمع المغربي؟ وهل أجاب قبل هذا إبداعا وإنتاجا وتفاعلا على خصوصيات المرحلة؟ وهو السؤال الذي يقودنا إلى تأمل شكل الممارسة المسرحية، كما انتهت إليه بعض محاولات التنظير المؤسلب القائم على ترويج المغالطات، الذي سقط في متاهات البحث عن قوالب وأشكال أنتربولوجية منحها سندا علميا، ثم تحوَّل إلى مُريد لهذه الأشكال يجتهد أصحابه (هذا التنظير) في البحث لها عن موطئ قدم في صناعة فعل فرجوي مُتـَغـَيى بتقديس الموروث ونفي الآخر (الغرب) نفيا مطلقا، رغم ريادته في هذا المجال، وانتهت محاولاتهم إلى ما يشبه الإخفاق بعدما بشرت طويلاً وبشكل متحمس بحساسية إبداعية جديدة، وبمسرح وثيق الصلة بالجمهور متخذة لها من بعض الظواهر الفرجوية الشعبية سندا مرجعيا، ومن التسميات والمفاهيم الرنانة ما أوهمها أنها تقوم على قاعدة صلبة، ثم انتهت إلى نعي نفسها على يد روادها ومنظريها وانقسامهم على أنفسهم بعد أن مَجَّدَت طويلاً الكتابة الدرامية على حساب المسرح.
إن حداثة المسرح تجعله يَتَملَّصُ من المفهوم السائد الذي يحدّده في النوع الدرامي بشكل عام، وهي النقلة النوعية التي تحققت مع الأبحاث التجريبية في المسرح، سواء كان هذا الفهم متوجها إلى المسرح، كما تبلور في أحضان المسرح الغربي وتحديداته الجمالية التي رسخها المنظور الأرسطي، أو فنا فرجويا يستجيب – بزعمه- للوجدان المغربي هو أساساً عبارة عن فلكلور نشأ في طقوس متوارثة، كما توحي بذلك أعمال هذا التنظير الباحثة عن تأصيل لهذا المسرح في بعض الأشكال التي أطلق عليها ظواهر ما قبل مسرحية.
وبَدَهيٌ أن فلسفة المسرح تنبني في قالبها الحديث على اعتبار الممثل عملة نادرة في الفرجة المسرحية، لأنه يحمل الواقعة المسرحية كلّها، فإذا كان عمل المؤلف والمخرج والتقنيين شيئاً يمكن الاستغناء عنه كما يؤكد جيرزي غروتوفسكي، فإن عمل الممثل شيء يصعب تحقُّقه بغيابه، فهو يَتَزَيَّى بلـَبُوس الشخصية، ويتنفس الإخراج، ويتموقع بالسينوغرافيا، ويغشى الحضور، إنه بتعبير آن أوبيرسفيلد، هو «كُلُّ» المسرح، تقول بهذا الصدد: «يمكن أن نستغني عن كل شيء في العرض باستثناء الممثل، لأنه قرينة العرض التي تحصل بها سعادة المتفرج، إنه الحضور الذي لا يقبل النفي. وهو مفارق مُنتجٌ ومَنتُوجٌ في مجال العلامات. إنه الرسام واللوحة، والنحاة ونموذجه وعمله.. إنه رابط كل المفارقات، يوجد هنا حيث يُجَلّي شخصا غائباً. إنه مُعَلّمُ الكلمة الكاذبة، ونطلب منه أن يكون صادقا إلى أبعد مدى بل صدّيقا». هذا الفهم ينأى بالممثل كلاعب مركزي في صناعة الفرجة المسرحية أن يكون معادلة ورقية مصنوعة في ذهن الكاتب أو شيئاً خاصاً من أشياء المخرج يفعل فيها ما يشاء، بحيث يبقى صوته خافتا أمام السلطتين: سلطة الكاتب وسلطة المخرج. إن غياب الممثل يفضي بطريقة مباشرة إلى انعدام فعل الفرجة، ويقضي بعدم إمكان الحديث عن المسرح، وهو الأمر الذي يهدم أساسأ مركزية النص المسرحي، أي تغليب كفة الفرجة على كفة الأدب، وانتصار الجسد الحاضر على حساب التمثل الذهني للممثل، كما في خيال المؤلف وهو الفهم الذي انتصر طويلا له منظرو الدراما عندنا.
ولا ينبغي في هذا المقام فهم الكلام على أن الممثل «نَصٌ مسرحي» في ذاته، فهذا الأمر غير وارد إطلاقاً، إنه إلحاح بالمقام الأول على نوع العلاقة القائمة بين المُمَثل والمُمَثـَل له، أي الجمهور مادامت علاقة الاثنين ثابتة ومباشرة ودائمة بتعدد حالات العرض، خصوصا مع نجاح وشيوع تجارب مسرحية قائمة على الارتجال، وأخرى كتبها رجال المسرح ممن توافرت لهم قريحة الكتابة بمنظور إخراجي واقترحوا أعمالهم كمشاريع عروض مسرحية، أي كتابة النص والإخراج في اللحظة نفسها، فلا وجود لنص مسرحي إلا فوق خشبة المسرح، والأعمال المسرحية المنشورة والمتداولة بين القراء تشترك مع نصوص أخرى تنتمي إلى أجناس إبداعية مختلفة في فعل القراءة، وهي بدورها أيضا قابلة للمسرحة (ديوان شعر، قصة، رواية…)، غير أنها تنفرد في كونها قابلة لحياة أخرى هي تحققها فوق الخشبة كفرجة بصرية بحكم أنها كتبت أصلا للمسرح، فالمؤلف يكتب نصه وهو يتخيله منطوقا وملعوبا في الآن، غير أننا لا نضمن نجاحه على مستوى العرض، فالعديد من النصوص المسرحية قد تَشُدُّنا أثناء قراءتها إلا أنها تكون فاشلة عندما تعرض فوق خشبة المسرح، وبالمثل هناك نصوص قد نمُرُّ عليها بشكل عادي، وحين تعرض على خشبة المسرح نكتشف قيمتها الفنية والجمالية، وهذا يعني دائما سيادة العرض على النص التي يحتل فيها الممثل موقعا مركزيا.
المغرب ـ محمد عبد الفتاح