على شاطئ الأطلسي في مدينة ساحرة اسمها « الصخيرات» في المغرب جرت فعاليات المؤتمر الثالث عشر لمؤسسة فكر.
وليس بعيدا عن الرّباط، و لا بعيدا عن كازابلانكا ( الدار البيضاء) تتربع تلك التحفة التي تسمى « قصر لامفيتريت» و التي استضافتنا على مدى أيام المؤتمر.
إنها « دهشتي المغربية « الأولى، فليس سهلا أن تدخل هذا البلد دون خلفيات الغموض و سحر الأشياء و غرابتها، لكن الذي يحدث أن الإكتشاف يصبح عملية معقدة حين يحضنك المغرب من كل الجهات…فكل سر يخفي سرًّا، و كل إجابة ليست أكثر من كومة أسئلة.
الرّغبة في البقاء هناك و التوغل في ثنايا تلك الذاكرة القديمة، تصبح شهوة لا نهاية لنيرانها. لكنها الحياة تهبنا فقط ما يمكن استيعابه في فترة قصيرة …فهذا المغرب الذي يشبه حكايات ألف ليلة و ليلة يلزمه عمر آخر لإكتشافه كله.
إنه موزاييك من الأسرار الرّبانية، أحياء قديمة، و قصور، فقر، و ثراء، بشاشة و لطف، و لهجة تحمل الكثير من الدفء حتى و إن لم نفهم شيئا. المغاربة يصبون كامل لطفهم في ملامحهم، كأنهم سلفا يعرفون أن لهجتهم صعبة الفهم، يستعملون إبتساماتهم و كلمات من اللغة العربية الفصحى ليعبروا عن حفاوتهم بضيوفهم، مع أن الكثيرين يتقنون الفرنسية و الإسبانية و الإنجليزية و هذه من الميزات الثقافية في هذا البلد.
إختيار المغرب مقرا لمؤتمر «فكر» هذه المرة لم يكن سوى عودة إليه بعد غياب دام عشر سنوات، أي منذ دورته الثالثة التي جرت في مدينة مرّاكش، و عودة الموضوع ذاته: «العرب بين ثقافة التغيير و تغيير الثقافة.» هذه السنة تناول المؤتمر «التكامل العربي بين حلم الوحدة و واقع التقسيم.»
فقد ارتأت مؤسسة فكر في مؤتمرها هذا العام بقيادة صاحب السمو الملكي الشاعر الأمير خالد الفيصل أن تناقش ما يحدث في عالمنا بعد أربع سنوات من الثورات و الحروب و الأحلام بالتغيير.
و معروف طبعا أن مؤسسة فكر تعنى بالواقع العربي منذ تأسيسها، و تهتم بتوليد المعرفة و نقدها و نشرها، و هي على مدى كل هذه السنوات قامت بدور الشعلة التي تضيء على كل ما هو جميل في عالمنا العربي، و كل ما يثير القلق من مآسي و مشاكل على حد سواء.
و لأن الرقعة العربية منذ ال2011 تمر بتحولات مخيفة لم تشهد مثلها عبر تاريخنا الحديث، فقد رأت المؤسسة بكوادرها و أدمغتها أن تطرح أنجع الطرق لعلاج ما يمكن علاجه و إنقاذ ما يمكن إنقاذه. و من أبرز هذه النقاط طرح السؤال القديم الجديد : لماذا هذه الهوة الكبيرة بين المثقف و السلطة؟ و شخصيا وجدت نوعين من المثقفين: الإشمئزازي المتشائم الذي يدعي أنه غير ذلك، و الإيجابي المتفاعل مع ما حوله رغم معطيات الواقع الهشّ.
فمثلا عبّر أحد المثقفين و هو الشاعر الألمعي من السعودية أن المثقف كائن مقلق، خرافي، لا يحتاج إليه أحد، لا يتبعه أحد، ليس له دور في صناعة الوجدان العام، وجدان ابنائنا، و اجيالنا …دوره مُختطف…يختطفه المطرب، المنبر، المفتي… و حتى شبكات التواصل الإجتماعي اليوم، فذبنا في هذا العالم الإفتراضي و أصبحنا نعيد إنتاج التخلف.
شعرت بيأسه حقا، لأننا فعلا نسينا الموزاييك الذي نتميز به، التعدد، الثراء الذي انبثقت منه مجتمعاتنا، القيم المعنوية، مكونات الروح التي كانت دوما تولد من هذا الشرق، و فجأة أصبحنا نفرغ حتى جامعاتنا من أرواحها و أدوارها و نلبي فقط حاجات السوق.
طبعا هذا الكلام مكرر و قلناه مرارا، لكنه ربما لم يصل بالشكل الذي نريده، لم نعرف حتى أن نضع أيدينا على نقطة الجرح و نوقف نزيفنا المستمر منذ عهود.
لم نسأل أنفسنا و لا مرة هل المثقف العربي أُخُتطِف دوره، أم أنه أخلاه و ترك دروه يأخذه غيره؟
في محاضرات كثيرة ألقاها الدكتور علي حرب، نقرأ عن دور المثقف السلبي، لكننا أبدا لم نعط الموضوع أهمية.
فقد سمعت مرارا أن الدكتور علي حرب يشتغل على الموضوع نفسه، لكني اليوم اقتنعت أنه لم يجد حتى من يفهم تحليله العميق للمشكلة العربية و الحلول التي قدمها على مدى تجربته كمفكر و مثقف يعيش الأزمة كمن وجد نفسه طبيبا وسط الكارثة.
هل حرص المثقف العربي على صناعة الوجدان؟
كم من المثقفين العرب يشاركون في تشكيل الوعي العام؟
كم من هؤلاء ينزلون من برجهم العاجي و يعيشون أزمات المجتمع العربي؟ و يشاركون في بناء الثقافة المجتمعية؟
القطيعة بين المثقف و واقعه ماذا نسميها يا ترى؟
هذه الساحة الخالية التي تركها لغيره ماذا نسميها؟
على تويتر مثلا ، نجد أن أكثر من يتبعهم الناس هم رجال الدين و المطربين و نجوم التلفزيون و السينما….أين المثقف؟
حتى في الغرب على سبيل الذكر فقط نجد أوباما في المركز الخامس بعد نجوم الفن ، و هذا يعني أن صوت المثقف غائب . و حين أقول أوباما أو أي شخصية سياسية مهمة في العالم فحتما خلفها جيش من المختصين في جس نبض الشارع، ترى لماذا ليس هذا المختص هو المثقف الذي يفترض به أن يكون القائد الأنجح للمجتمعات المتحضرة؟
هل هو مقصى؟
هل إنتهى دوره؟ أم أنه لم يبدأ بعد؟
عند قيام الثورة الفرنسية شنق لافوازييه و تلاميذه، من طرف « رعاع الثورة» و لم يأبه الثائرون للأدمغة التي أقصيت من المشهد الثوري الفرنسي، لكن وجهفرنسا كله تغير، هل لأن العالم و المثقف كان قابعا في مخبئه بعيدا عن الشارع الغارق في « مجاري « الحياة؟
هل تنتظرنا هذه الصورة القاتمة في العالم العربي لأن المثقف ترفّع عن مجتمعه؟
إن الأسئلة لا نهاية لها، لأن الواقع و التاريخ يزخران بحقائق مرعبة قد تكون من ثوابت ما يحدث عند الهزات الإجتماعية الكبرى.
لأتحدث عن تجربتي الإعلامية، كم خدمت المثقف العربي ، و النجوم و الأقلام ، كم من شخص عرفت وزنه الثقيل في المشهد الثقافي فأبرزته ، أولئك المغيبين عن الخريطة الإعلامية كلهم وضعتهم في الواجهة، لكن السؤال ماذا فعل أغلبهم بعد أن قربتهم من المشاهد العربي؟ و السؤال الأخطر ماذا فعل المشاهد و كيف تلقى فكر هؤلاء؟ كيف تلقاهم؟ كيف تحدث عنهم و أعاد صياغة ما شاهده؟
الشاعر الليبي الذي جلبته من أقصى ليبيا سالم العوكلي على سبيل المثال والذي أدهشني فعلا ، ربما لا يعرفه الجمهور العريض الذي شاهده عبر حلقتي، باستثناء النخبة، و السؤال هنا مجددا كيف لمشروع ثقافي أن يتحول لمشروع نخبوي؟ الجمهور المستهدف فيه فعلا هو النخبة، في حين نجد هذه النخبة تتعامل بتعالي مع التلفزيون، هناك خلل في العلاقة بين المثقف و الإعلام التلفزيوني، فالمثقف يظن دوما أنه أرفع مستوى من ثقافة التلفزيون.
كوني شاعرة أيضا، حين أشارك في مهرجانات شعر، تصلني التعليقات التي تنتقد وجودي، فبالنسبة لهم أنا نجمة تلفزيونية، و كأن النجم ليس من حقه أن يكتب شعرا.. طبعا يتناسى الجميع أني خريجة جامعة، أني حاصلة على شهادة الدكتوراه، و أني إبنة الشعر، و عشقي للأدب هو الذي جرّني لهذا الإختصاص، و أن دراستي الأكاديمية إضافة مهمة لموهبتي ، و ما كانت موهبتي لتكتمل دون هذا الصقل الأكاديمي لها.
الوسط الإعلامي من جهة ينظر إلي على أني مهوسة بالثقافة و أركض خلف حلم لا يمكن تحقيقه، بحكم أن الثقافة و الأدب لا سوق لهما.
نحن اليوم أمام أسئلة جديدة حول دور المثقف، لكن ماذا لو منحت لنا فرصة كالتي خلقها لنا الأمير خالد الفيصل لأنه في شخصه شاعر و مثقف و رجل سياسة و إقتصاد و صاحب سلطة، أليس من واجبنا أن نلتف حوله و نعطي للثقافة أبعادا حقيقية ملموسة تغير من واقعنا؟
نعم يستحق هذا الرجل أن نذكر له فضائله الكبرى علينا، و بالمناسبة سأذكر حادثة عشتها في مؤتمر فكر التاسع ببيروت، بقاعة المؤتمرات بفندق فينيسيا حيث تواجدت بالصدفة، و كان موضوع المؤتمر حول دور العرب في رسم مستقبلهم، حين ثارت ثائرة بعض الحضور على وجود الكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق بين المتحدثين، بحكم أنها طرحت قضايا جنسية في أدبها، و قبل أن توقف عن الحديث نزل سمو الأمير من جناحه و أمر بإعطائها فرصة الحديث، و في ختام الندوة قام و صافحها.
و هذا أنبل سلوك رأيته في حياتي قام به رجل بوزن الأمير إحتراما للكلمة و حرية التعبير، ففي مواقف أخرى كان بعض المثقفين حين تكون السلطة في أيديهم يلغون الآخر دون أدنى شعور بالذنب أو إنتهاك لحق التعبير عن أنفسهم.
*إعلامية وشاعرة بحرينية
بروين حبيب*