لقد نوهت كثيرا وفي حوارات عدة وأيضا في مقالات لي، إلى أهمية الجوائز الأدبية، بالنسبة للمبدعين في كل مكان، فنحن نحتاجها بالفعل، لا لصناعة كتاب معينين وإلغاء كتاب آخرين موجودين، لأنها في رأيي الشخصي لا تملك السلطة أو النفوذ لفعل ذلك، ولكن لنفض الإحباط والكآبة وانعدام الثقة بالنفس، وكل تلك الشوائب التي طالما علقت بسكة الكتابة.
وأعتقد أن وجود عدد من الجوائز المهمة، التي أخذت مكانها في الوطن العربي مؤخرا، وابتدأ الناس في متابعتها، مثل جائزة البوكر أو الجائزة العالمية للرواية العربية، وجائزة العويس والشيخ زايد، وحتى جائزة الطيب صالح فيالسودان، التي أنشأتها شركة الاتصالات زين، عقب وفاة الطيب، إضافة لعدد من الجوائز الأخرى الأقل أهمية، قد ساهم بشكل كبير في مغامرة الكتابة، واجتهاد الكتاب في تجويد أعمالهم وإبعادها عن التقليدية، والمألوف من أجل الوصول إلى واحدة من تلك الجوائز، ما يعني انتشارا للكاتب ونصه الفائز، وربما جائزة مادية ذات شأن تسد واحدة من فجوات الحياة. وبالطبع هناك سلبيات، تحدثت عنها كثيرا من قبل.
الأدب السوداني للذين لا يعرفونه جيدا، هو أدب خاص جدا، أدب العرب والأفارقة في الوقت نفسه ، بمعنى أن السودان بما يحتويه من تفاعل جيني بين العرب والأفارقة، حقق بيئة جيدة ومختلفة، وتصلح قطعا لكتابة لا تشبه الكتابات العربية الأخرى في كثير من الجوانب. قطعا سنجد القرية نفسها، السلوك القروي نفسه، المعتقدات نفسها، ولكن نجد أيضا قرية أخرى داخل القرية المألوفة، ومعتقدات أخرى تعيش جنبا إلى جنب مع المعتقدات المتوفرة في البلاد العربية الأخرى. والذي يعيش في السودان، ومن دون أن يشعر، يجد نفسه يعيش داخل قرية ثقافية كبرى، تشده للحياة والمشاركة فيها، وأعرف أن الفعاليات الثقافية لا تنقطع أبدا وندوات القراءة ومناقشة الكتب تحدث حتى في الهواء الطلق، والحدائق العامة، والأجيال كلها منذ عهود إما تكتب أو تعشق الكتابة، رغم كل المحبطات السياسية والاقتصادية والمعيشية التي تلازم السودان منذ أن استقل في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
وأزعم أن السودان من الدول العربية القليلة التي شاهدت فيها كتبا ضاعت ملامحها من كثرة ما تداولتها الأيدي في استعارات القراءة، وأيضا من الدول التي تجد فيها الأمسية الشعرية والندوة الأدبية مع كاتب، معاملة تقترب من المعاملة التي تجدها حفلات المطربين، في احتشاد المتذوقين.
لذلك كانت هناك: الروائية ملكة الدار محمد، كاتبة من جيل قديم كان يمكن أن تصبح من رائدات الأدب النسائي العربي، لو اتسع أفق إعلامنا السوداني، ولو وصل صوت ملكة الدار إلى العرب. كان هناك أبوبكر خالد مضوي، صاحب الروايات الاجتماعية الجيدة، مثل «النبع المر»، و»بداية الربيع»، التي كان يمكن أن تصنع له تاريخا عربيا، لو استوعب عربيا، وكان قد نشر بالفعل فيالقاهرة وبيروت، في زمن صعب جدا، ثم كان الطيب صالح، الذي قفز طبعا بسمعة الأدب السوداني إلى أقصى الأماكن، ولذلك يعتبر السودانيون أن ما حققه الطيب، هو إنجاز للوطن كله، سيبقى ما بقي الوطن.
بعد الطيب جاء إبراهيم اسحق، ومحمود محمد مدني وبثينة خضر مكي، ثم جاء جيلي مع بركة ساكن وغيرنا، وجيل التسعينيات مثل أحمد الملك وغيره، والجيل الجديد مثل، منصور الصويم وكثيرين جيدين معه، وجاء حمور زيادة قويا ليحصد جائزة العظيم نجيب محفوظ بروايته الثانية المسماة «شوق الدرويش»، ويضيف كثيرا من البهجة والأمل لأولئك الذين يعانون من إحباط الكتابة، ولا يثقون بأن الأدب الجيد يمكن أن يمنح ما يستحق، حتى لو كان كاتبه شابا، لم يشخ في سكة الكتابة.
حقيقة لم يتسع لي الوقت بعد لقراءة «شوق الدرويش» التي تتحدث عن فترة الثورة المهدية، في السودان، كما سمعت، وهي حدث موح كثيرا وشخصيا استوحيت منه روايتي «توترات القبطي»، واستوحى منه جمال محجوب الذي يكتب بالإنكليزية، إحدى رواياته أيضا، وأعتقد أن هناك عدة كتاب، تناولوا تلك الفترة، كل بطريقته وعوالمه، لكن من المؤكد أن «شوق الدرويش»، رواية ممتازة، وإلا ما نالت ثقة لجنة تحكيم جائزة محترمة مثل جائزة نجيب محفوظ.
كنت قرأت من قبل رواية: «الكونج» لحمور، وكانت صدرت عن ميريت بالقاهرة، منذ عدة أعوام، وعلى الرغم من أن الحدث الرئيسي في تلك الرواية، كان خافتا إلى حد ما، والأحداث تمضي أفقيا، بعرض الشخصيات التي تواطأت على جريمة حدثت في القرية، إلا أن المكان كان مرسوما ببراعة، والشخصيات مرسومة باقتدار أيضا، وموهبة الكاتب تبدو واضحة في تصيد الحيل، وكتابة الجاد والساخر في تناغم غير مخل، وفي النهاية أعتبر الكونج، تجربة كانت ممتازة من أجل أن تأتي بعدها تجارب أخرى مثل «شوق الدرويش» التي توصل لجائزة مرموقة مثل جائزة نجيب محفوظ.
الآن من حق حمور زيادة، الموجود في القاهرة، قريبا من مبدعين كثيرين، نحبهم، أن يفخر بإنجازه، وأن تقام له الندوات التي تناقش ذلك الإبداع، من حقه أن يتحدث عن تجربته رغم أنها قصيرة نسبيا، وذلك باعتبارها تجربة تم ترسيخها، فالجائزة لم تخترعه، فقط ألقت إليه بضوء غسل الإحباط، وربما تأتيه جائزة ذات ضجيج إعلامي أكبر مثل البوكر، فترسخ اسمه أكثر. فجائزة نجيب محفوظ رغم أهميتها، تحتاج إلى إعلام أكثر سطوة، وتحتاج أيضا إلى أن تعدل قيمتها المادية إلى ما يمكن أن يعين قليلا، فالتكريم المعنوي أمر في غاية الأهمية، لكن التكريم المادي، مرحب به أيضا في هذا الزمان.
*كاتب سوداني